آثار ما قبل الإسلام في منطقة عسير في المملكة العربية السعودية.
تقع منطقة عسير في جنوب غرب المملكة، وتتميز باعتدال مناخها، وخصوبة أراضيها، وتنعم بفصلين ممطرين خلال العام، ما جعل منها حقلاً زراعيًا يجود بمختلف المحصولات الزراعية المتمثلة في الحبوب، والفاكهة، والبقوليات، بالإضافة إلى أشجار النخيل التي تنتشر بساتينها على مساحات واسعة من محافظة بيشة، وتشتهر بجودة تمورها، ووفرة إنتاجها، وتنوع محصولاتها. وقد عُرف عن سكان منطقة عسير - منذ العصور القديمة - ارتباطهم وولعهم بأراضيهم، وتفانيهم في خدمتها، واستصلاحها، وعُرف عنهم أيضًا إجادة استثمارها.
ولم تكن المنطقة بمعزل عن المسيرة الحضارية للجزيرة العربية، ولا بعيدة عن تطوراتها، فقد تبوأت مكانة عالية، وأسهمت بفاعلية بارزة في مجمل الإنجازات الحضارية التي أنجزتها الجزيرة العربية منذ فجر تاريخها، والرسوم والنقوش الصخرية المنتشرة في جبالها وأوديتها التي ترجع إلى عصور موغلة في القدم، وما تلاها من إنشاءات وإنجازات حديثة أدلة ملموسة على الدور الذي قامت به المنطقة في مسيرتها الحضارية.
ورد ذكر المنطقة في المصادر القديمة والدراسات السابقة، فقد حظيت بقدر يتناسب والثقافة السائدة للمنطقة على مختلف فتراتها التاريخية، حيث ورد ذكرها في الكتابات الإسلامية المبكرة التي تمثلها كتب الأقاليم والبلدان (الجغرافيا)، والحوليات، والمغازي، والسير، والتراجم، والأنساب.
وفي مجمل تلك الكتب كثير من المعلومات المتعلقة بمنطقة عسير، فقد ذكر الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني تفصيلات في غاية الدقة عن طبيعة أرضها، وجبالها، وأوديتها، وحواضرها، بالإضافة إلى محصولاتها الزراعية، وثروتها الحيوانية، ويعد كتابه (صفة جزيرة العرب) من أوثق المصادر القديمة عن المنطقة، وسكانها، وأنسابهم، وحياتهم الاجتماعية
ويُعدُّ كتاب (المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة العربية) للإمام أبي إسحاق الحربي من أدق المؤلفات التي تضمنت معلومات جغرافية عن منطقة عسير وحواضرها الصغيرة والكبيرة، والطرق المرتادة التي تُعرف بـ (طريق الحاج اليمني)، ويجتازها الحاج اليمني عبر ثلاثة طرق رئيسة؛ الأول: بمحاذاة ساحل البحر الأحمر، والثاني: من أعالي الجبال، والثالث: ينحرف نحو الشمال الشرقي إلى بيشة ثم يتجه شمالاً عبر تبالة وتربة إلى مكة المكرمة. وقد قدمت مذكرات بعض مرتادي هذه الطرق كثيرًا من المعلومات الحيوية عن المنطقة، وأحوال سكانها، وأنماط معيشتهم خلال القرون الإسلامية المبكرة والوسطى، بل وإلى الماضي القريب.
ومن الكتب الجغرافية التي عُنيت بمنطقة عسير كتاب (معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع) لأبي عبيد البكري وهو من علماء القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، وكتاب (معجم البلدان) لياقوت الحموي ، وكذا كتابا (المسالك والممالك) لابن خرداذبة، و (صورة الأرض) لابن حوقل . ويرجع تاريخ تأليفها إلى القرنين السادس والسابع الهجريين (الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين)، وهي كتب جغرافية عمومًا، ولكنها تضمنت معارف متنوعة عن المنطقة لم تقتصر على الجغرافيا بمفهومها الحديث، ولكنها تقدم معلومات شمولية يتداخل فيها التاريخ والثقافة والحضارة.
بحكم الموقع الجغرافي لمنطقة عسير فإنها تمثل حلقة وصل بين الحضارات القديمة التي نشأت جنوب الجزيرة العربية وحضارات منطقة الشرق الأدنى، وقد أدت المنطقة دورًا رياديًا في ربط الثقافات في جنوب الجزيرة العربية والثقافات المعاصرة لها في مناطق متباينة من الجزيرة العربية، ولا سيما وسطها وشمالها الغربي. ولما كانت معبرًا طبيعيًا لتلك الأنشطة الثقافية والحضارية فقد نشأت بها مراكز تجمعات سكانية ما لبثت أن زادت أهميتها، وتطور نشاطها، وتوسعت مساحتها.
ومن أبرز تلك المراكز:
أولاً: جُرَش
من أهم المواقع القديمة في منطقة عسير، وتقع جنوب مدينة خميس مشيط، وتختلف الروايات حول بداية الاستيطان ودواعيه في هذا الموقع، إلا أن تلك الروايات تُجمع على أنه كان حاضرة مزدهرة اشتهرت بكثير من الحرف والصناعات، أهمها: دباغة الجلود، والنسيج، وآلات الحرب، وأهمها: الدبابة، والمجانيق وهي من الصناعات الحربية التي تعد من أهم الأسلحة الدفاعية آنذاك
وتُعَدُّ جُرَش من أكبر المراكز التجارية في منطقة عسير، وقد أهّلها موقعها على الطريق التجاري القديم أن يكون لها كيان إداري ذو صبغة استقلالية؛ مما مكَّنها من أن تكون مخلافًا عُرف في فترة ما قبل الإسلام بـ (مخلاف جُرَش) .
وأطلال مدينة جُرَش اليوم تنتشر على مساحة تقدر بـ 300م من الشمال إلى الجنوب في قرابة 250م من الشرق إلى الغرب، وهي أسس مداميك بناء من حجر الجرانيت، بالإضافة إلى تلال لم يتم التنقيب عنها، والموقع موثق في سجلات وكالة الآثار والمتاحف برقم 217/118.
وإلى الشرق على بُعد ما يقارب ثلاثة أرباع كيلو متر يقع جبل حمومة برقم 217/119، وقد كُتب على واجهات بعض صخوره عدد من النقوش بالخط المسند الجنوبي، وتتركز في قمة الجبل. كما يوجد على مساحة صغيرة في أعلى الجبل تُقدر بـ 10 × 15م بقايا أساسات لمبنى شُيد من صخور أو حجارة كبيرة، ويتكون من ثلاث غرف مستطيلة يتناثر حولها فخار ينتمي إلى فخار جنوب الجزيرة العربية، ويعود تاريخه إلى النصف الثاني من الألف الأول قبل الإسلام
وقد حظي موقع جُرَش باهتمام المؤسسات العلمية ذات العلاقة، فوجهت إلى دراسته ميدانيًا، وقد أسفرت عن العثور على عدد من الأواني والأدوات التي تلبي احتياجات سكان هذه المدينة القديمة، ومنها أوانٍ للطبخ صُنعت من الحجر الصابوني، وأغلبها من الفخار، بالإضافة إلى أدوات دقيقة صُنعت من حجر المرو.
ولعل أبرز البقايا الأثرية في جُرَش حجر رحى دائري قطره 175سم وارتفاعه 50سم، وتتوسطه فتحة مربعة طول ضلعها 24سم لاتزال على سطح الموقع.
ومن أدق ما عُثر عليه غطاء حافظة صغيرة بشكل رأس طائر، عُثر عليه بجانب أدوات دقيقة لسحق الكحل وما شاكله مما يتوجب نعومة سحقه، ومن بقايا المنشآت العمرانية يتضح أنها تتكون من نوعين متميزين من المباني:
الأول: مبانٍ كبيرة بنيت بأساسات حجرية مشيدة بطريقة الأطراف البارزة وأسلوب التثبيت مثلث الزوايا، ووُجدت أطلال خمسة مبانٍ من هذا النوع.
الثاني: استُعمل في إنشائه الآجر المحروق، بالإضافة إلى الطين والأحجار الصغيرة وهي مواد أُضيفت لتقوية البناء
وفخار جُرَش - في مجمله - يندرج ضمن نماذج فخار جنوب الجزيرة العربية القديم الذي عُثر عليه في عدد من المواقع، ومنها نجران وهي الأقرب إلى جُرَش، ويتميز بسمكه وخشونته ولونه المائل إلى اللون الأحمر، وعجينته ممزوجة بالقش لكونه عنصرًا مقويًا لزيادة مقاومته (Temper).
أما زخارفه فعنصرها الأساسي الخطوط المتموجة، بالإضافة إلى التنقيط، وطلاؤه غالبًا ما يكون بالمغرة الحمراء. وقد عُثر كذلك على كميات من كِسَر الأواني المصنوعة من الحجر الصابوني العادي والمزخرف
وقد تم تحليل عينات مما عُثر عليه في الموقع باستخدام طريقة (الكربون14)، فأظهرت نتائجها أن الموقع شهد فترة استيطان قديمة، وهي معاصرة لحضارة جنوب الجزيرة التي ازدهرت خلال النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد، واستمرت حتى بداية القرن السادس الميلادي، تلتها مرحلة أخرى بدءًا من العصر العباسي ، ثم فترة لاحقة ربما ترجع إلى القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي، وقد رجحت هذه الفترة بالعملات الرسولية.
ثانيًا: بيشة
تعد بيشة من أكبر المحافظات التابعة لإمارة منطقة عسير، ويتبعها عدد من المراكز الإدارية، وتشتهر بخصوبة تربتها، ووفرة مياهها، واعتدال مناخها، ما جعلها ذات أهمية زراعية في إنتاج الحبوب بأنواعها، والحمضيات، والبقوليات والمحصولات الزراعية الأخرى، بالإضافة إلى شهرتها التاريخية في إنتاج التمور بمختلف أنواعها ولا سيما (الصفري). يذكر الحموي: " بيشة ورنية أرضان...، وجميع بني خفاجة يجتمعون ببيشة ورنية، وهما واديان، بيشة تصب من اليمن، ورنية تصب من سراة تهامة "
وعلى الرغم من أهمية بيشة ودورها البارز في اقتصاد جنوب غرب الجزيرة العربية منذ فترة الممالك العربية القديمة؛ إلا أنها - بوصفها بلدة معمورة - لم تحظَ باهتمام الجغرافيين والمؤرخين العرب في صدر الإسلام.
وبيشة محافظة كبيرة تحتل مساحة واسعة، وينقسم نمط الحياة فيها إلى حاضرة مستقرة تمارس الزراعة والتجارة ومختلف الحرف، وبادية متنقلة تعتمد على رعي الإبل والأغنام، وقد أدى اختلاف نمط الحياة بين حاضرة بيشة وباديتها إلى بروز ظاهرة التبادل التجاري المحلي الذي اصطُلح على تسميته في علم الأنثروبولوجي (Anthropology) بـ (Local Exchange System)، ولا يزال معمولاً به إلى الوقت الحاضر مع اختلافات طفيفة فيما يتعلق بعملية العرض والطلب، وأثمان السلع.
فيما تقدم إيجاز عن المعطيات البيئية التي تميز بها موقع بيشة وجعلها تتبوأ مكانة بارزة جنوب غرب المملكة في إنتاج التمور، والحبوب، والحمضيات، ومختلف أنواع البقول، بالإضافة إلى جودة مراعيها، ووفرة إنتاجها من الإبل والأغنام، ويضاف إلى ذلك المكانة التجارية التي تمتعت بها منذ عصر الممالك العربية القديمة، ثم ما نتج من ذلك من ازدهار مختلف الأعمال المهنية، ولعل أبرزها التعدين الذي اشتُهرت به، فالعبلاء - وهي من أعمال بيشة - تُعدّ أكبر مناطق التعدين في الدرع العربي وأشهرها، ولا سيما في استخلاص النحاس، بالإضافة إلى الذهب والحديد.
وتنتشر مواقع التعدين في عدد من الأمكنة، وتنتج مختلف المعادن، مثل: الحديد، والذهب، والفضة، ويعد منجم وادي ثراد من أكبر مناجم تعدين خام الذهب وأهمها، وقد أُعيد استثماره حديثًا.
ولموقع بيشة أهمية كبيرة؛ إذ يمر به ويتفرع منه طريقان تجاريان هما أكثر طرق التجارة في الجزيرة العربية حيوية، فمن بيشة يوجد طريق يصلها بمكة مارًا بـتبالة ومنها إلى كرى، ثم تربة، ثم إلى الصفن، ثم الفتق، ثم إلى رأس المناقب، ثم قرن المنازل، ثم رمة، ثم الزيمة فإلى مكة. وآخر يتجه شمال شرق مارًا بتثليث، فالأفلاج (الفلج)، فالخضرمة، فالخرج، فحجر اليمامة. وبالإضافة إلى هذين الطريقين توجد شبكة معقدة من الطرق المحلية التي تربط بين أسواق بيشة من جهة، وأسواق سراة الحجاز من جهة أخرى
ونظرًا إلى التغيرات الدينية والسياسية التي حدثت في الجزيرة العربية بعد ظهور الإسلام فقد تقلصت تجارتها، وانحسر النشاط التجاري في مناطق محددة، ما أدى إلى فقدان تلك الطرق أهميتها، فهُجرت واندثرت، ولم يشفع لبقاء بعضها أو أجزاء منها إلا استخدامها لأداء فريضة الحج، فقد كانت الطريق الرئيس للحاج اليمني.
أما الحِرَف بمختلف أنواعها (الحدادة، النجارة، الصياغة، والحياكة.. وغيرها) فلا شك في وجودها، وإن كانت المصادر الإسلامية المبكرة لا تذكر معلومات يُعوَّل عليها في دراسة هذا الجانب.
والتركيبة الاجتماعية لسكان منطقة بيشة كانت تتألف من عناصر قبلية متنوعة، ويذكر ياقوت الحموي: " وفي بيشة بطون من الناس كثيرة من خثعم، وهلال، وسواءة بن عامر بن صعصعة، وسلول، وعقيل، والضباب، وقريش، وهم بنو هاشم لهم المعمل وهي قرية من أعمال مكة في وادي بيشة اشتُهرت بفسائل النخيل "