من عادة الإنسان - وخاصة من طعن في السن - تنزيه النفس وتبرئتها من المعايب، فلم ير إلا مدافعًا عنها - خلافا لمن جاهر بالنقائص - جادًّا في إثبات استقامتها ونزاهتها، في الوقت الذي علت فيه صيحات التصابي، وسرت عدواها في الدماء.
يقول الأقدمون: قد جمع نضارة الشباب إلى أبهة المشيب، وهو على حدوث ميلاده، وقرب إسناده شيخ قدر وهيبة، وإن لم يكن شيخ سن وشيبة، هو بين شباب مقتبل، وعقل مكتمل، قد لبس برد شبابه، على عقل كهل، ورأي جزل، ومنطق فصل [1].
وفي هذا المقام يتحدث الغزال بنعمة الله - تعالى - عليه، شابًّا وشيخًا، فيقول: [2] [من الطويل]
لَعَمْري ما مَلَّكْتُ مِقْوديَ الصِّبا فأمطوَ للذَّاتِ في السَّهْلِ والوَعْرِ [3] ولا أنا ممن يؤثر اللهوَ قلبُهُ فَأَمْسِىَ فِي سُكْرِ وأصْبِحَ في سُكْرِ ولا قارعٌ باب اليهوديِّ مَوْهنًا وقد هجعَ النُّوَّامُ مِنْ شَهْوةِ الخَمْر وأوْتغَه الشَّيطانُ حَتّى أصارهُ مِنَ الغَيِّ في بَحْر أضل من البَحْرِ [4] أَغُذُّ السُّرَى فيها إذا الشَّرْبُ أنكروا ورهنيَ عِنْدَ العِلْجِ ثَوْبي من الفَجْرِ [5] كفاني مِنْ كُلَّ الذِي أُعْجِبُوا به قَلَيْلَةُ مَاءٍ تُسْتَقى لي مِنَ النَّهرِ [6]
امتثل الرجل لقول ربه - سبحانه وتعالى -: ? وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ? [الضحى: 11] [7]، فأبان عن أنه لم يكن ممن أفسده الشيطان، وأهلكه، فجعله من حزبه، من عشاق الخمر، والزمر، والضلالة والغي، بل كان وما يزال متزينًا بالطاعة، متسربلًا بالقناعة، ملازمًا لصلاة الفجر والجماعة، ثم يقول - في المعنى نفسه، وفي القصيدة نفسها -:
وبِاللهِ لَوْ عُمِّرْتُ تِسْعِين حجةً إِلَى مِثْلِها مَا اشْتَقْتُ فيها إلى خَمْرِ ولا طَربْت نَفْسِي إلى مِزْهرٍ ولا تَحَّنَن قَلْبِي نحو عُودٍ ولا زَمْرِ فَطُوبَى لعبد أَخْرجَ اللهُ رُوَحه إليه من الدنيا عَلَى عَمَل البِرِّ
ولا ينافي هذا ورود أبيات له تبين تصابيه [8]؛ إذ إنه لم يقصد من شعره الذي هو على ذلك الأسلوب - أسلوب ابن أبي حكيمة راشد بن إسحاق الكاتب في المجون - أكثر من المجاراة والمضاهاة[9].
والبيت الأخير مأخوذ من معنى قوله تعالى: ? الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ? [الرعد: 29] ([10])، وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه أبو سعيد الخدري، قال: يا رسول الله، طوبى لمن رآك وآمن بك، قال: طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى ثم طوبى لم آمن بي ولم يرني.... [11].
فهو ينفي تجرؤه على الله [12] - تعالى - وتصابيه، مصورًا، ومثبتًا انشغاله بالله وحده، وتحصيل العلوم، نافيًا انشغاله برزق، أو مجون، أو زوج [13]، وفي هذا تعريض بمن لهى وتصابى، وفيه تسام بنفسه عن النقائص والدنايا.
وهذا هو الوزير أبو القاسم بن عبدالغفور [14]، يكشف - مثل الغزال - عن أنه قتل التصابي، وأقل سفينة العلم، والطاعات، والآداب، فيقول: [15] [من الطويل]
يتباهى الرجل بفضل الله - تعالى - عليه؛ إذ عزف عن التصابي من لهث وراء الغواني والشراب وأهله ولعل عزوفه منذ نعومة أظفاره، فيكون مقصوده ما أقدمت عليه، ولا ملَكْتُ قلبي يديه، من طفولتي إلى شيخوختي.
فغايته قبل وبعد المداد، وأصحابه الأقلام، وشرابه ماء عينيه، وخطوه إلى المحراب، للصلاة والدعاء، فقد أراد أن يكون ممن قال الله - تعالى - فيهم: ? إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ? [فاطر: 28] [18]، ويقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من سلك طريقا يلتمس فيه علمًا، سلك الله به طريقًا إلى الجنة، وإن العلماء ورثة الأنبياء .. فمن أخذ بحظ منه أخذ بحظ وافر) [19].
اتضح لنا من تصويري الغزال، وأبي القاسم: كثرة ترحال كثير من الأندلسيين، وخبرتهم العريضة في أمور الدنيا والدين.
ومن الشعراء من أنصف كلًّا من الشيب والشباب، فجمع بينهما في المدح والثناء، ومن هؤلاء: ابن دراج القسطلي، الذي يعجب لهما، فيسل لسانه دفاعًا وثناءً عليهما، فيقول: [20] [من المتقارب]
ينظر الشاعر في نفسه، فيرى إشراق سواد رأسه، في بياض شيبه، فتأخذ النشوة بتلابيبه، عجبًا لهذا المشهد، وقد فاح طيب كل منهما من طيب صاحبه، وناهيك من رائحة المشيب، المستمدة من أنفس وأثمن ما يملك المرء الشبابُ، فمعنى طلوع بياض الشيب، غروب الشمس، وأفول النجم.
وإذ به في موطن آخر يندب شبابه الغض، وقد بلى برده، وروض اللهو الذي جف نبعه، ومع هذا الرثاء، وذاك البكاء، يرى أن المشيب منحة وهدية، يتقوى بنورها على رد عيون الغانيات خاسئة حسيرة، فيقول: [22][ من الطويل ]:
يتحسر الشاعر على شبابه، وأماكن اللهو التي خلت من عشاقها، وفي هذا ما يوحي بحبه للشباب، ثم يكشف بعد ذلك عن رضاه عن المشيب الذي أعشى عيون الغواني، مجملًا صورته ببعض الصور البيانية، فقوله: فيا للشباب الغض أنهج برده: استعارة مكنية، ومنها كذلك قوله: ويا لرياض اللهو جف...، ومن التشبيه قوله: وما هو إلا الشمس، وهو من قصر الموصوف على الصفة، تعريضًا بمن نفر منه.
وقد سبق ابن دراج عائشة القرطبية [24]، فمدحت شيب وولدان آل عامر بالرزانة والرأي والخبرة والحنكة، والفتاءة والقوة، فكل منهما يحمل مزايا وسمات الآخر في السلم والنزال، بين الصغار والكبار، فتقول داعية لوليده المظفر بن أبي عامر، والسمو بين ملوك الأرض: [25][ من الوافر]
فَسَوْفَ تراه بَدْرًا في سَمَاءِ مِنَ العَلْيا كواكبُه الجُنُودُ وكيف يخيِبُ شِبْلٌ قد نمته إلى العَليْا ضراغمةٌ أسودُ فأنتم آلَ عامر خير آل زكا الأبناءُ منكم والجدودُ [26] وليدُكَم لدى رأي كشيخٍ وشَيْخُكُمُ لدى حربٍ وليدُ
فترى الشاعرة أن أبناء آل عامر أجدر بالمعالي، وأولى بالسيادة، فهم سليلو الملوك والفرسان، وأهل الفصاحة والبيان، فقولها: وكيف يخيب شبل: استفهام إنكاري بمعنى النفي؛ أي: لن يخيب المظفر بن المنصور بن أبي عامر، وهو مَن هو؟!
أحب الشعراء الشبابَ، فندبوه، ودعوا إلى اقتباس ما فيه، ولم يهضموا حق المشيب، فأكرموه، وبجلوه!!
[1] زهر الآداب حـ 1 / 221.
[2] انظر ديوان الغزال؛ تحقيق د/ الداية صـ 57، وتحقيق د / لبنداق صـ 192: 194.
[3] فأمطو: أسرع، فـ المطو : الجد والنَّجاء في السير؛ اللسان م. ط. ا. .
[6] قليلة: تصغير قلة، وهي الجرة العظيمة، أو الجرة عامة، أو الكوز الصغير؛ اللسان ق. ل. ل. .
[7] سورة الضحى / آية 11.
[8] انظر ديوان الغزال؛ تحقيق د / الداية صـ 33.
[9] انظر المرجع السابق.
[10] سورة الرعد / آية 29.
[11] انظر الإحسان في تقريب ابن حبان حـ 16 / 213 برقم 7230؛ تأليف علاء الدين علي بن بلبان الفارسي، وتعليق شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة ط 1 / 1412هـ= 1991م، تفسير ابن كثير حـ2/ 756، 757.
[12] اتهم بالتجرؤ على القرآن الكريم، بميله إلى معارضة سورة الإخلاص؛ انظر: نفح الطيب حـ 2 / 261، ديوانه بتحقيق د / البنداق صـ 42.
[13] له أبيات تبين انقطاعه للعلم، متخليًا عن زوج، منها: [من الكامل]
كم قائل: قد ضاع شَرْخُ شبابه ??? ما ضَيّعَتهُ بَطالةٌ وعُقَارُ
انظر ديوان الغزال؛ تحقيق د / الداية صـ 56، 57.
[14] يقول فيه الفتح بن خاقان في مطمح الأنفس صـ 34: فتى ذكا فرعًا وأصلًا، وأحكم البلاغة معنًى وفصلًا، وجرد من ذهنه على الأغراض نصلًا .. مع شيبة ألحقته بالكهول .. وله شعر بديع السرد، مفوف البرد، وقد أثبت منه ما ألقيت وبالدلالة عليه اكتفيت، توفي في عنفوان شباب المعتمد بن عباد، وهو منه بمكان الواسطة من السلك، قال فيه المعتمد: [من الطويل ]: لم أجده في ديوانه ط 5 دار الكتب 1430 هـ = 2009 م.
أبا القاسم قد كنت دنيا صحبتها..... قليلًا كذا الدنيا قليل متاعها
انظر المغرب حـ 1 / 241، معجم الشعراء الأندلسيين.. صـ 305.
[15] مطمح الأنفس.. صـ 34.
[16] الطلى: الصغير من كل شيء؛ اللسان ط. ل. ى. .
[17] المحراب: صدر البيت، وأرفع مكان في المسجد؛ اللسان ح. ر. ب. .
[18] فاطر / 28.
[19] رواه ابن ماجه برقم 223، صحيح الجامع للألباني برقم 6297، وله في بيان فضل العلم، في المطرب صـ 34، والمغرب حـ 1 / 241، باختلاف في بعض الكلمات.
[20] ديوان ابن دراج، صـ 470.
[21] ضاع المسك، وتضوع؛ أي: تحرك وانتشرت رائحته، الضيعة والضياع للرجل: حرفته وصناعته، ومعاشه وكسبه، أو مال الرجل من النخل والكرم والأرض؛ اللسان ض. و. ع. .
[22] ديوانه صـ 10، 11 التشبيهات من أشعار أهل الأندلس صـ 255 برقم 593.
[23] أنهجت الثوب، فهو منهج: أي أخلقته، وأنهج الثوب إذا أخذ في البلى؛ اللسان ن. هـ. ج. . سفاهًا السفه والسفاه: خفة الحلم، وقيل: نقيض الحلم، وأصله الخفة والحركة، وقيل: الجهل؛ اللسان س. ف. هـ.
[24] عائشة القرطبية، أو عاتكة المرية، هي عائشة بنت أحمد بن محمد بن قادم، لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس، من يعدلها علمًا، وفهمًا، وأدبًا، وشعرًا، وفصاحة، كانت حسنة الحظ تكتب المصاحف، وماتت عذراء لم تُنكح سنة أربعمائة، كانت من عجائب زمانها، وغرائب أوانها؛ انظر: نفح الطيب حـ 4 / 290، الشعر النسوي في الأندلس؛ محمد منتصر الريوفي؛ تقديم العلامة / عبدالله كنون صـ 58، منشورات مكتبة الحياة، بيروت سنة 1978م، المرأة في الشعر الأندلسي صـ 19، 20، محمد حسن إبراهيم عمري دكتوراه، دار المصطفى للنسخ والطبع 1399 هـ = 1978 م.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.