العهد العثماني الثاني بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
العهد العثماني الثاني بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية

العهد العثماني الثاني بالمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية.

 
 
أدخل محمد علي باشا عددًا من الأنظمة الإدارية والمالية الحديثة إلى الحجاز، وتمكن بواسطتها من إحكام سيطرته على المنطقة، وحين أُجبر الباشا على التخلي عن الحجاز للدولة العثمانية عام 1256هـ / 1840م ورث العثمانيون تلك الأنظمة ولم يغيروا كثيرًا منها، وأرادوا أن يرثوا أيضًا قوة السلطة التي حققها الباشا في الحجاز، وبخاصة أن الدولة العثمانية قد دخلت في عهد جديد، هو عصر التنظيمات الذي مكن العثمانيين من إعادة تنظيم دولتهم وإعادة فرض هيمنة الحكومة المركزية على الولايات.
 
عينت الدولة العثمانية عثمان باشا الذي كان شيخًا للحرم النبوي واليًا في جدة وشيخًا للحــرم المــكي في عام 1257هـ / 1841م، ومنحته سلطات واسعة، الهدف منها الحد من سلطات أمير مكة المكرمة الشريف محمد بن عون الذي كان محسوبًا على والي مصر محمد علي باشا  .  وكان من الطبيعي أن ينشب النـزاع على السلطة في الحجاز بين أمير مكة المكرمة والوالي العثماني، ما اضطر الدولة العثمانية إلى تعيين عدد من الولاة وعزل آخرين خلال إمارة هذا الشريف  .  وقد قدم الشريف محمد بن عون خلال هذه الفترة خدمات عسكرية كبيرة للدولة العثمانية في أقاليم نجد وعسير واليمن، وكافأته الدولة على ذلك بمنح رتبة الباشوية ورتبة الوزارة له ولأبنائه الأربعة  .  لكن كل ذلك لم يثن الحكومة العثمانية عن العمل على فرض سلطتها في الحجاز عن طريق دعم سلطة والي جدة على حساب سلطة أمير مكة المكرمة، ولم تكن الدولة تتردد في عزل والي جدة عندما يفشل في تحقيق سياستها في الحجاز، فعزلت حسيب باشا الذي فشل في فرض الإصلاحات في مكة المكرمة في عام 1266هـ / 1850م وعينت عبد العزيز باشا واليًا في جدة، وأمرته بالقبض على الشريف محمد بن عون وأولاده وإرساله إلى إستانبول في عام 1267هـ / 1851م  
 
كفت الدولة العثمانية يد أمير مكة المكرمة محمد بن عون عن المدينة المنورة على الرغم من الخدمات التي قدمها في المدينة وفي غيرها، وأصبح محافظ المدينة يتلقى أوامره من والي جدة، وعندما أصدرت الدولة منشور التنظيمات الخيرية في عام 1273هـ / 1856م ونظام الولايات في عام 1281هـ / 1864م اللذين تضمنا تغييرات وإصلاحات جذرية للأنظمة الإدارية والمالية في الدولة، حاول المسؤولون العثمانيون في الحجاز تطبيق بعض ما جاءت به تلك الأنظمة  .  وقد قسمت ولاية الحجاز حسب نظام الولايات لعــام 1281هـ / 1864م إلى متــصرفيتين هما: متصرفية جدة، ومتصرفية المدينة المنورة، وألحقت بمتصرفية المدينة أربعة أقضية هي: ينبع البحر والوجه والسوارقية والعقبة  ،  وصار لمتصرفية المدينة المنورة فيما بعد وضع خاص، إذ أصبح بمقدورها الاتصال بالعاصمة العثمانية مباشرة  
 
كان يترأس الجهاز الإداري في المدينة المنورة المحافظ الذي يجمع بين السلطتين المدنية والعسكرية ويحمل رتبة باشا، ويساعد المحافظ هيئة تسمى (هيئة أركان اللواء) تتكون من أربعة أعضاء من كبار الموظفين في المدينة هم: القاضي، مدير الحرم، المحاسب، والكاتب، وتشكل هذه الهيئة السلطة الإدارية العليا في محافظة المدينة  .  ويأتي تحت هذه الهيئة هيئة أخرى تسمى (مجلس الإدارة) مهمته مناقشة الأمور الإدارية والبلدية وغيرها واقتراح الحلول للمشكلات التي تطرأ في المحافظة، وعدد أعضاء هذا المجلس نحو عشرة، بعضهم أساسيون من كبار موظفي المحافظة، مثل القاضي والمفتي الحنفي ومدير الحرم والمحاسب، يضاف إليهم عدد من الأعيان يتم انتخابهم من بين وجهاء المدينة  .  وقد شهدت المدينة المنورة هدوءًا ملحوظًا خلال النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري، حيث لم يوجد فيها سوى خمسمئة من الجند غير النظاميين غالبهم من بقايا قوات محمد علي باشا، بالإضافة إلى عدد محدود من الجند النظاميين العثمانيين  
 
فــي عـام 1260هـ / 1844م عين داود باشا والي بغداد المشهور محافظًا للمدينة المنورة وشيخًا للحرم النبوي  ،  وقد لاحظ الباشا تسرب الخراب إلى مباني المسجد النبوي  التي أُنشئت في عهد السلطان المملوكي قايتباي (ت 901هـ / 1495م)، فكتب إلى السلطان العثماني عبد المجيد يوصي بضرورة إعادة عمارة المسجد النبوي، وقد وافق السلطان على إجراء عمارة شاملة للمسجد لم يسبق لها مثيل، وبعث في عام 1266هـ / 1850م مشرفًا على المشروع مصحوبًا بعدد من المهندسين والبنائين والنجارين والحدادين والفنيين والنحاتين وما يلزم من مواد البناء عن طريق ينبع  .  وقد أقيمت الورش في ضواحي المدينة لقطع الأحجار ونحتها ونقلها إلى المسجد النبوي، ولكي لا تتعطل الصلاة في المسجد قرر المشرفون على العمارة هدم وإعادة بناء أروقة المسجد واحدًا بعد الآخر، وبدؤوا بالرواق الشمالي، كما حرصوا على إقامة أعمدة الرواق الجنوبي (القبلي) في نفس الأمكنة التي كانت فيها أعمدة جذوع النخل على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتعرضوا للحجرة النبوية والقبة المقامة فوق القبر الشريف، ونفذت العمارة على الطراز العثماني، حيث أقيمت الأعمدة الأسطوانية وربط بينها بعقود دائرية، وشيدت على تلك العقود قباب مختلفة الأحجام والأشكال، وجعل لبعضها نوافذ وزين بعضها الآخر بالزخارف النباتية البديعة من الداخل، وطوقت قواعد الأعمدة بالنحاس الأصفر وغطي جدار القبلة بالرخام الصيني والخطوط البديعة  
 
استغرقت العمارة المجيدية للمسجد النبوي إحدى عشرة سنة، بين عامي 1266 و 1277هـ / 1850 و 1861م، وتوالى على الإشراف عليها سبعة مشرفين مات بعضهم أثناء العمل، وبلغت تكاليفها مئة وأربعين كيسًا من الذهب، أي ما يعادل واحدًا وتسعين مليونًا من القروش العثمانية، وزيد في مساحة المسجد ما مقداره 1293م  .  وقد بقي من هذه العمارة اليوم القسم القبلي من المسجد، وقد أسهم هذا المشروع في تنشيط الحركة التجارية والعمرانية في المدينة المنورة بما ضخه من أموال طائلة في الاقتصاد المحلي، فنشط أهل المدينة في بناء المنازل والدور، وإجراء العيون وغرس النخيل والحدائق الواسعة عليها  
 
تتابع على تولي منصب محافظ المدينة المنورة ومشيخة الحرم النبوي بعد وفاة داود باشا في عام 1267هـ / 1851م عدد من الباشوات الذين أشرفوا على استكمال العمل في عمارة المسجد النبوي، واستمرت الأوضاع هادئة في المدينة وما حولها حتى بداية القرن الرابع عشر الهجري، وقد تأثرت المدينة المنورة بسياسة السلطان عبد الحميد الثاني (1293 - 1326هـ / 1876 - 1908م) العربية والإسلامية، فقد أظهر السلطان اهتمامًا شديدًا بالحرمين الشريفين وسكان الحجاز، فقرب إليه عددًا من أهل المدينة واستخدم أحدهم ويدعى السيد أحمد أسعد سكرتيرًا خاصًا له  .  وزاد في الأموال التي كانت تدفع للقبائل النازلة على طريق الحج  .  وكان السلطان عبد الحميد الثاني كأحد سلاطين عصر التنظيمات يسعى إلى تقوية سلطة الدولة على ولاياتها وربط تلك الولايات بالعاصمة وتطبيق التنظيمات الإدارية الجديدة فيها؛ ففي عام 1318هـ / 1900م أنشأت الدولة في المدينة المنورة محطة اتصال لاسلكي  كبيرة تربطها بالعاصمة العثمانية  .  وفي عام 1320هـ / 1902م عينت الدولة محافظًا للمدينة يدعى علي باشا مرمحين الذي أراد تطبيق بعض قوانين التنظيمات بفرض رسوم على أهل المدينة، ولأن أهل المدينة لم يتعودوا على دفع الضرائب والرسوم ثاروا على المحافظ وحاصروه في مقر عمله وطالبوه بإلغاء الرسوم، واتصلوا برقيًا بالعاصمة وطلبوا إلغاء الرسوم وعزل المحافظ، فاستجاب السلطان عبد الحميد الثاني لمطالبهم  
 
وقد تكرر شغب سكان المدينة واعتراضهم على المحافظين الذين تعينهم الدولة في المدينة وتطلب منهم تطبيق بعض قوانين التنظيمات وتقوية سلطة الدولة في المدينة، ما اضطر الدولة إلى إرسال فرق عسكرية من الشام واليمن لمساعدة المحافظ، ولجنة تحقيق للنظر في أسباب الشغب والاعتراض على المحافظين من قبل الأهالي والعسكر في بداية عام 1322هـ / 1904م  .  وقد أدانت لجنة التحقيق 42 شخصًا من المدنيين و 40 من العسكر أرسلوا إلى السجن في قلعة الطائف حيث بقوا فيها 18 شهرًا قبل أن يطلق سراحهم  .  وبذلك قضت الدولة على نوازع الاعتراض على سياستها المركزية، وأتيحت الفرصة لتنفيذ بعض تنظيماتها الإدارية، وخلال هذه الفترة كان العمل يجري على قدم وساق في مشروع سكة حديد الحجاز الذي كان من أهم مشروعات حكم التنظيمات العثمانية وحكم السلطان عبد الحميد الثاني أثرًا على المدينة المنورة.
 
أقدم السلطان عبد الحميد الثاني على إنشاء سكة حديد الحجاز مدفوعًا بسياسة الجامعة الإسلامية والمحافظة على الحرمين الشريفين ومواجهة الأطماع البريطانية في البحر الأحمر والجزيرة العربية  .  وقد جمع السلطان التبرعات للمشروع من داخل الدولة العثمانية ومن خارجها مستخدمًا عددًا من الوسائل، وقد زادت الأموال التي جمعت لتمويل المشروع على الكلفة النهائية التي بلغت خمسة ملايين ونصف مليون ليرة عثمانية 125 مليون فرنك  .  واختار السلطان للإشراف على المشروع مهندسين ألمانيين لهم خبرة واسعة ومقاولين نمساويين وإيطاليين لتنفيذ الإنشاءات والجسور، وتم توفير العمال من سكان البلدان التي تمر بها السكة ومن جنود الجيش العثماني  .  ولم يكن المهندسون والفنيون والجنود والمشرفون على المشروع بأقل حماسة من السلطان نفسه على إنجاز المشروع خصوصًا بعد أن وصل الخط إلى بلدة العلا في اتجاه المدينة المنورة، فقد انبعث في نفوس أولئك العاملين من النشاط والهمة والعاطفة الدينية والحماس للعمل ما مكنهم من إنجاز ما تبقى من الخط بين العلا والمدينة المنورة 325كم في غضون عام واحد، لاعتقادهم بسمو الأهداف التي يسعى لتحقيقها المشروع  .  وقد وصل أول قطار إلى المدينة المنورة  في شهر رجب 1326هـ / أغسطس 1908م. وفي شهر شعبان أقيم احتفال كبير بمناسبة وصول الخط إلى المدينة وافتتاح محطة السكة الحديد في البلدة  حضره كبار رجال الدولة في الشام والحجاز وكبار المسؤولين والمشرفين على المشروع وعلى رأسهم المشير كاظم باشا مدير عام المشروع ومختار بك، رئيس المهندسين وعدد كبير من أهل المدينة، وقد زاد من ابتهاج أهل المدينة افتتاح محطة الكهرباء التي أنارت مصابيحها المسجد النبوي ومحطة السكة الحديد لأول مرة في تاريخ المدينة، وقد كافأ السلطان المشير كاظم باشا على خدماته في مشروع سكة الحديد بتعيينه واليًا للحجاز  
 
لقد كان الخط الحديدي الحجازي أسرع الخطوط الحديدية العثمانية إنجازًا وأقلها تكلفة وأنبلها أهدافًا. وعلى الرغم من أن عمره لم يزد كثيرًا على فترة إنشائه، إلا أن أثره كان كبيرًا على المدينة المنورة من النواحي الدينية والاقتصادية والعمرانية والعسكرية.
 
وفر الخط وسيلة سفر مريحة وسريعة وآمنة ورخيصة لحجاج بلاد الشام والأناضول الذين كانوا يقطعون المسافة بين دمشق والمدينة في أربعين يومًا على القوافل، مليئة بالمصاعب والإرهاق والخوف، فصاروا يقطعونها في أربعة أيام في غاية الراحة وبتكاليف زهيدة، ولم يقتصر استخدام الخط على حجاج الشام والأناضول، بل إن بعض حجاج المشرق الإسلامي والمغرب قد استخدموه أيضًا  .  ولذلك تزايدت أعداد الحجاج والزوار والتجار القادمين على الخط الحديدي إلى المدينة المحطة النهائية لهذا الخط من ناحية الجنوب، فنشطت الحركة التجارية بين دمشق وفلسطين والأناضول وبين المدينة المنورة، وتم تبادل المنتجات الزراعية والصناعية بين تلك المناطق، وارتفع مستوى المعيشة في المدينة المنورة ونما اقتصادها، وبسبب كثرة الوافدين إلى المدينة من الحجاج والزوار والمجاورين نمت حركة العمران هناك حتى تضاعفت قيمة العقارات عدة مرات، كما تضاعف عدد سكان المدينة، فقد قفز عددهم من عشرين ألفًا قبل تشغيل الخط إلى ثمانين ألفًا في عـام 1332هـ / 1914م  .  ولم يقـتـصر أثر الخط الحديدي على نقل الناس والبضائع والأموال فحسب، بل تجاوز ذلك إلى نقل الأفكار والتقنية والتحديث، فقد انفتح سكان المدينة المنورة على بلاد الشام والأناضول، ما سهل التبادل الفكري وحركة المطبوعات، كما تزامن تشغيل الخط مع وصول الكهرباء وخدمات البريد وخدمات البرق إلى المدينة المنورة  
 
كان من الأهداف التي أنشئ الخط الحديدي الحجازي من أجلها إحكام سلطة الحكومة المركزية على أقاليم غربي الجزيرة العربية والتصدي للنفوذ البريطاني في المنطقة، وذلك بتوفير سرعة نقل الجنود والسلاح والأخبار إلى تلك الأقاليم، وبما أن المدينة المنورة أصبحت النهاية الجنوبية للخط، فقد اكتسبت أهمية خاصة في هذا المجال، وكان يوجد في المدينة عام 1303هـ / 1885م ثلاثة طوابير من العسكر النظامي، يتكون كل طابور من 350 جنديًا مع ضباطهم وآلاتهم ومهماتهم تحت قيادة (أميرلاي)، وكان يوجد في القلعة مئة من جنود المدفعية بذخيرتهم وحيواناتهم، وطابوران من الشرطة أحدهما من الجند النظامي والآخر من غير النظامي، يتكون كل طابور من نحو مئة نفر  
 
تزايدت أعداد القوات العسكرية العثمانية في المدينة خاصة والحجاز بصفة عامة مع إنشاء الخط الحديدي، فبالإضافة إلى الجنود الذين عملوا في إنشاء السكة الحديدية أُرسلت فرق عسكرية لحماية الخط ومنشآته ومحطاته والعاملين فيه من هجمات القبائل التي لم تكن راضية عنه بسبب تأثيره على مصادر رزقها  .  وبعد وصول الخط الحديدي إلى المدينة المنورة زادت الدولة من عدد قواتها في الحجاز والمدينة، فوصل ذلك العدد إلى ستة آلاف جندي كان نصفهم يتمركزون في المدينة وما حولها.
 
وخلال السنوات الأولى من حكم حزب الاتحاد والترقي الذي وصل إلى الحكم في الدولة العثمانية في عام 1326هـ / 1908م شعرت الحكومة العثمانية بالخطر على سلطتها في الجزيرة العربية، وبخاصة في اليمن وعسير، فزادت من قواتها العسكرية في الحجاز حتى بلغت عشرة آلاف جندي كان معظمهم يتمركزون في المدينة المنورة وحول محطات ومسار الخط الحديدي  .
 
أعاد حزب الاتحاد والترقي العمل بالدستور واختار الشريف الحسين بن علي أميرًا لمكة المكرمة، وعلى الرغم من أن أمير مكة المكرمة الجديد لم يكن يشارك الاتحاديين توجهاتهم السياسية والدستورية، إلا أنه ظل خلال السنوات الأولى من حكمه يسايرهم ويظهر الولاء لهم، في الوقت الذي كان فيه يقوي سلطته في الحجاز ويوثق علاقته بالقبائل  .  وفي حين أمرت الحكومة العثمانية والي الحجاز في مكة المكرمة ومحافظ المدينة المنورة بإعلان الدستور وتطبيق التنظيمات والقوانين العثمانية الجديدة في الحجاز وإخضاع الإقليم لسلطة الحكومة المركزية كان الشريف حسين يعمل على المحافظة على الامتيازات القديمة التي كان يتمتع بها الحجاز وحكامه من الأشراف ويحاول مد نفوذه إلى المدينة المنورة وغيرها من مدن المنطقة، ولذلك دخل الشريف في صراع شديد مع الولاة العثمانيين المتعاقبين في الحجاز  .  وللحد من طموحات الشريف حسين وتقوية السلطة المركزية في المنطقة أوعزت الحكومة العثمانية إلى محافظ المدينة المنورة أن يكتب أعيان المدينة التماسًا يطلبون فيه فصل محافظة المدينة المنورة عن مكة المكرمة وربطها مباشرة بالعاصمة إستانبول، وقد تمكن المحافظ علي رضا الركابي من إقناع بعض أعيان المدينة بذلك، ووافقت الحكومة على الفصل في عـام 1328هـ / 1910م  .  وقد شجع الحكومة العثمانية على اتخاذ هذا القرار ارتباط المدينة بالشام والأناضول بالخط الحديدي الحجازي وخطوط البرق واللاسلكي، وعندما أعيدت الانتخابات في الدولة لمجلس المبعوثين كان للمدينة المنورة مبعوثها الخاص بها في ذلك المجلس  
 
عندما فشل العثمانيون في إقناع أمير مكة المكرمة بمد الخط الحديدي الحجازي إلى مكة المكرمة وجدة قرروا أن يجعلوا من المدينة المنورة التي ينتهي إليها ذلك الخط قاعدة عسكرية عثمانية في غربي جزيرة العرب، وذلك للمحافظة على سلطة الدولة ونفوذها في مكة المكرمة وعسير واليمن ونجد، وبخاصة بعد أن أحكم البريطانيون قبضتهم على مصر وقناة السويس  .  وخلال السنوات التي سبقت قيام الحرب العالمية الأولى زادت الحكومة العثمانية من قواتها في المدينة المنورة، إذ بلغت نحو خمسة عشر ألف جندي يتمركز معظمهم في المدينة وحول سكة الحديد، وكانت هذه القوات مجهزة بمدافع ميدان ومدافع كبيرة ومدفعية جبلية بالإضافة إلى الأسلحة الخفيفة والبنادق والبغال والعربات اللازمة لنقل الأسلحة الثقيلة  
 
أصدرت حكومة الاتحاد والترقي في عام 1331هـ / 1913م قانون الولايـات الجـديد، ثم عينت وهيب باشا واليًا على الحجاز لتطبيق ذلك القانون في الإقليم وتقوية قبضة الحكومة المركزية فيه، وقد أثار ذلك الشريف حسين وسكان الحجاز الذين فقدوا كثيرًا من الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها في السابق، وقد تزامن ذلك مع سياسة التتريك التي أخذت تنتهجها الحكومة العثمانية في الحجاز وبلاد الشام والعراق، فقد تشكلت أحزاب المعارضة العربية ضد سياسة المركزية والتتريك  ،  وبدأ قادة بعض أحزاب المعارضة العربية يتصلون بالشريف حسين لإقناعه بقيادة ثورة ضد العـثمانيـين  .  وفي المحــرم 1333هـ / 1914م أعلن العثمانيون الدخول في الحرب إلى جانب دول المحور، ما مهد الطريق للاتصالات بين أمير مكة المكرمة وبين زعماء الحركة العربية في بلاد الشام من ناحية، وبينه وبين البريطانيين في مصر من ناحية أخرى بهدف العمل على الحفاظ على مصالح العرب خلال الحرب وبعدها  
 
دخل الشريف حسين في مراسلات مع المسؤولين البريطانيين في القاهرة الهدف منها الحصول من بريطانيا وحلفائها على اعتراف منهم باستقلال البلاد العربية في الجزيرة العربية والشام والعراق تحت زعامته مقابل الانضمام إلى الحلفاء في الحرب والثورة ضد الدولة العثمانية، وقد امتدت تلك المراسلات التي عرفت بمراسلات الحسين - ماكماهون - نحو ثمانية أشهر، أعلن الشريف على إثرها في شــعـبان 1334هـ / 1916م الثــورة ضــد الدولة العثمانية من مكة المكرمة  .  وكان العثمانيون قد ارتابوا في سلوك أمير مكة المكرمة وتصرفاته قبل إعلان ثورته بعدة شهور، فأرسل جمال باشا قائد الجيش الرابع في سورية حملة عسكرية مكونة من 3500 جندي إلى المدينة المنورة فـي جمـادى الآخرة 1334هـ / 1916م، ثـم أتبــع ذلك بإرسال فخري باشا إلى المدينة، وأمره بأن يتسلم قيادة القوات العثمانية هناك ومنصب محافظ المدينة من بصري باشا في حالة حدوث حركة من الشريف حسين  
 
تمكنت قوات الشريف حسين، على الرغم من افتقارها إلى التدريب والتسليح، من التغلب على الحاميات العثمانية في مكة المكرمة وجدة والليث والقنفذة بسهولة  .  كما تمكن الأميران علي وفيصل ابنا الشريف حسين من جمع نحو ستة آلاف مقاتل من القبائل المحيطة بالمدينة وغيرها والمرابطة بهم في آبار علي، وكان حجم القوات العثمانية في المدينة في ذلك الوقت يزيد على 23 ألف جندي و 600 ضابط، بالإضافة إلى الحاميات المقامة لحراسة سكة حديد الحجاز، وكانت هذه القوات على مستوى جيد من التسليح والتموين والتدريب والتنظيم في الوقت الذي كانت القوات الشريفية تفتقر إلى كل ذلك  
 
بدأ الأميران علي وفيصل في مهاجمة بعض المواقع والقرى المحيطة بالمدينة المنورة للاستيلاء عليها وفرض حصار على المدينة والقوات العثمانية فيها، لكن عدم التكافؤ بين الجانبين ساعد فخري باشا على إلحاق الهزائم المتلاحقة بالقوات الشريفية في مخيط والحسا والعلاوة وقباء وقربان والعوالي وإجبارها على التراجع إلى الجفر وبئر الماشي وبئر عباس، ثم واصل فخري باشا ضغطه في شــوال 1334هـ / 1916م لإبعــاد القــوات الشريفية عن المدينة والطرق المؤدية إليها حتى اضطر الأمير فيصل إلى التراجع إلى ينبع والأمير علي إلى رابغ  .  وخلال هذه الفترة كان الشريف حسين يلح في طلب الإمدادات من السلاح والذخيرة والمال التي وعده بها البريطانيون، فأرسل البريطانيون من مصر والهند كميات من الأسلحة والذخيرة برفقة عدد من الضباط والجنود العراقيين الذين أرسلوا إلى جبهة المدينة  .  وخلال هذه الفترة أيضًا عزلت الحكومة العثمانية الشريف حسين عن إمارة مكة المكرمة وعينت بدلاً منه الشريف علي حيدر وأرسلته إلى المدينة المنورة لكسب القبائل وزعماء الجزيرة العربية إلى جانب العثمانيين والتعاون مع فخري باشا، لكن علي حيدر فشل في كسب العرب واختلف مع فخري باشا وصار عبئًا عليه، فاضطرت الحكومة إلى سحبه إلى سورية  
 
تحسنت أوضاع قوات الشريف حسين مــع بــداية عـام 1335هـ / 1917م بســبب وصول الإمدادات البريطانية من السلاح والذخيرة والأموال والمستشارين والخبراء الإنجليز مثل لورنس ونيوكمب، وعدد من الضباط العرب الذين عملوا في الجيش العثماني مثل نوري السعيد وعزيز علي المصري وجعفر العسكري الذين قاموا بتنظيم القوات الشريفية وتدريبها على استخدام الأسلحة التي أرسلها البريطانيون، بالإضافة إلى عدة مئات من الجنود والضباط العرب في الجيش العثماني الذين وقعوا في أسر جيوش الحلفاء  .  وقد تشكلت القوات الشريفية من ثلاثة جيوش تحيط بالمدينة المنورة: الجيش الجنوبي بقيادة الأمير علي في رابغ، والجيش الشمالي بقيادة الأمير فيصل في ينبع، والجيش الشرقي بقيادة الأمير عبد الله في وادي العيص. وأخذت هذه الجيوش تقوم بغارات على المواقع العثمانية المتمركزة حول المدينة  
 
حين أبدت القوات العثمانية مقاومة شديدة لتلك الغارات غيرت الجيوش الشريفية خطتها، وعمد الجيشان الشمالي والشرقي إلى اعتراض اتصال القوات العثمانية في المدينة بسورية والأناضول، وذلك بمهاجمة سكة حديد الحجاز ومحطاتها وخطوط البرق والتقدم شمالاً للاتصال بقوات الحلفاء في مصر وفلسطين  .  وقد نتج من استمرار تلك الهجمات تراجع القوات العثمانية والتمركز في المدينة والمناطق القريبة منها خلال عام 1335هـ / 1917م، كما فشـل ابن رشـيد حليف العثمانيين في تقديم المساعدة لحامية المدينة بسبب الحصار المفروض عليها  .  وأُحكم الحصار على القوات العثمانية في المدينة، فقد وصل آخر قطار في رحلة عادية إليها فـي جــمـادى الأولـى 1336هـ / 1918م، عندها اقترح القادة العسكريون الألمان على حلفائهم العثمانيين سحب قواتهم التي كان يراوح عددها بين 23 و 25 ألف جندي من المدينة إلى الشام للاستفادة منها في مواجهة قوات الحلفاء هناك، لكن البريطانيين الذين علموا بذلك أحبطوا الخطة بتشديد الحصار على المدينة والقيام بأعمال تدميرية للخط الحديدي، وبذلك أُبقيت القوات العثمانية في حالة عزلة  .  وقد حاول فخري باشا الاتصال بالأمير عبد العزيز آل سعود وطلب منه المساعدة، لكن عبد العزيز آثر الحياد في الحرب  
 
كان لانقطاع صلة القوات العثمانية في المدينة المنورة بالشام والأناضول وشدة الحصار المفروض عليها أثر بالغ على تلك القوات وعلى سكان المدينة أنفسهم، فقد تناقصت المؤن والأغذية ودبت الأمراض في الجنود وسكان المدينة، ما دفع فخري باشا إلى التحكم في محصولات التمور والحبوب في المدينة وتشغيل جنوده في الزراعة لزيادة الإنتاج. وعندما تفاقمت الأزمة وعم الغلاء والجوع بدأ كثير من سكان المدينة يغادرونها إلى مكة المكرمة وينبع وبلاد الشام، كما بدأ بعض الجنود يهربون من معسكراتهم  .  وقد اضطر فخري باشا حينما طال الحصار وتناقصت المؤن إلى ترحيل بعض سكان المدينة قسرًا إلى بلاد الشام وغيرها لغرض توفير المؤن والأغذية للعدد الكبير من الجنود العثمانيين المحاصرين في المدينة  
 
 
شارك المقالة:
158 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook