ماهي إسهامات المنطقة الجوف في إثراء الحقل الثقافي الوطني في المملكة العربية السعودية

الكاتب: ولاء الحمود -
ماهي إسهامات المنطقة  الجوف في إثراء الحقل الثقافي الوطني في المملكة العربية السعودية

ماهي إسهامات المنطقة  الجوف في إثراء الحقل الثقافي الوطني في المملكة العربية السعودية.

 
أبناء الجوف والهم الثقافي الوطني
 
إضافة إلى ما سبق من نشاط فكري وثقافي، فإن كثيرًا من أبناء منطقة الجوف الذين حملوا الهم الثقافي والفكري عملوا في مواقع مختلفة من المملكة، فأثَّروا وتأثَّروا، كما تبوأ كثير منهم مناصب رسمية في مؤسسات الدولة المختلفة خارج المنطقة، فقدموا لمن اتصلوا به شيئًا مما لديهم، وهذا شأن كثير من أبناء المناطق الأخرى.
 
ولئن كان في مثل هذا العرض عمومية لا تميز جهود المنطقة عن جهود غيرها، فإن نظرة إلى حركة التأليف والنشر وأبرز المثقفين والأدباء في المنطقة كفيلة بأن تشي بالدور الفعال الذي يؤديه مثقفو المنطقة وأدباؤها. وبما أنه من الصعب حصر جميع الأسماء اللامعة في هذا المقام؛ لأن القائمة ستطول، فسنقصرها على أمثلة لها وزنها المحلي والعربي، وهي في نهاية المطاف أسماء تمثيلية لا حصرية.ففي مجال الاقتصاد يبرز اسم عبدالواحد الحميد، وفي الإعلام عبدالرحمن حمود العناد، وفي التاريخ صالح محمود السعدون، وفي الآثار يتردد اسم خليل المعيقل، وفي الإدارة فهاد الحمد، وفي الحقل القانوني يأتي رزق مقبول الريس، وفي مجال العلوم البحتة سالم سليم الذياب، وفي علم النفس فلاح محروت العنـزي. أما في المجال التربوي فهناك أسماء، مثل: سليمان محمد الجبر، وموافق فواز الرويلي، وطارش مسلم الشمري، ونايف صالح المعيقل، وكثير غيرهم.
 
أما في حقل الآداب والفنون فأبناء الجوف لهم باع لا يقصر إسهاماتهم عن إسهامات أبناء المناطق الأخرى؛ وهنا ترد أسماء لها دورها في القصة القصيرة، والشعر، والمسرح، والنقد الأدبي. ففي مجال الشعر يبرز اسم عابد إبراهيم الجوفي، وعيد نعيم السهو، وأحمد عبدالله السالم وعبداللطيف الصالح. وفي حقل المسرح هناك محاولة عابد إبراهيم الجوفي، وجهود حزاب ثاني الريس الذي تخصص في مجال الدراما والإنتاج المسرحي إضافة إلى تخصصه الإعلامي في مجال الاتصال. كما نشير إلى عدد من المهتمين بالتأليف والإخراج المسرحي، ومنهم: حمود الشايع، وجميل فرحان اليوسف، والممثل مبارك الخصي الشراري. أما في مجال القصة القصيرة فالريادة المعاصرة يتصدرها اسم عبدالرحمن الدرعان، وزياد عبدالكريم السالم، وفي مجال النقد يأتي اسم سعد عبدالرحمن البازعي، وفهد قاسم الموسر، وغيرهم كثير، ولعل الرصد الوارد في قائمة المراجع والمصادر يشير إلى بعضهم. أما في مجال الصحافة فمن أبرز الأسماء التي أسهمت فيه: خالد الحميد، وهلال الحيزان، وعبدالرحمن نبط العسكر، وفارس الروضان، وإبراهيم الحميد، وثامر المحيسن، وعبدالعزيز الحموان، ومحمد السياط، وفهدة الحسن، ويضاف إلى هؤلاء عدد من المهتمين بالتواصل مع الصحافة من خلال المشاركة بالمقالات، مثل: عبدالسلام حمدان الدرعان، وقبيل تركي الشمري، وجميل فرحان اليوسف. كما لا ننسى جهود حمود مريحيل الضويحي، أحد رواد الصحافة في المنطقة الذي ألف عددًا من الإصدارات. وأيضًا السيد فارس رزق الروضان الذي أصدر صحيفة شهرية منوعة تحت اسم (أصوات).
 
كما حظي عبدالرحمن الدرعان، وزياد السالم بالاحتفاء في الأوساط الثقافية على مستوى المشهد الثقافي في المملكة؛ فالقاص الدرعان كان له حضوره في وسائل الإعلام وفي المنتديات المحلية؛ إذ كان أحد أبرز من أحيوا أمسية (السرد) وملتقاه في نادي المنطقة الشرقية الأدبي. وحسبه ما نشرته وسائل الإعلام آنذاك؛ إذ وصف المنتدى الأستاذ الدرعان بأنه قاص تاريخه في عالم القص طويل، وأن أعماله، خصوصًا مجموعته: (رائحة الطفولة)، بمقياس الجودة والإبداع تأتي بموازاة أعمال محلية وعربية ثرية. بل إن الثناء على أعماله وجودتها جعل بعضهم يقول: عبدالرحمن الدرعان كان فارس الانطلاقة بتمكنه الإبداعي وبصوته الذي كان في حاجة إلى مَنْ يسمعه.
 
وقد تناول كثير من النقاد أعمال الدرعان بالدرس والتحليل، سواء في هذا المنتدى أو في غيره؛ أمثال أسامة الملا الذي أثنى على أعمال الدرعان، إذ يراه يحتل موقعًا فاعلاً... يحتفل بالذات وبروح الاحتفاء بالمكان، وأن نصوصه مكتفية بذاتها - سفر دائم في الطفولة؛ وهذا ما وضحه (الناقد القاص عبدالله) السفر. أما عيسى قطاوي، فقد أكد دقة التصوير، والوصف، وسلامة اللغة، ونضج أسلوب السرد، ووضوح الرمز عند الدرعان  .  وقد استثار الدرعان في هذه الأمسية اهتمام المعنيين بفن القص والسرد، فظهرت دراستان حول مجموعة (رائحة الطفولة)، الأولى أنجزها عبدالله السفر   والثانية جاءت بقلم الأكاديمي مبارك الخالدي  . 
 
وغني عن القول أن قصص مجموعة (رائحة الطفولة) تكاد تستنسخ بعضها بعضًا، أو لعلنا نقول إن رائحتها تنساب عبر الصفحات لتغذي بعضها بعضًا، في محاولة شبه يائسة لاسترجاع تيمة (المكان) الذي يحاول الدرعان تأكيده في هذه المجموعة. ولعل المكان، شأنه شأن الطفولة نفسها، لم يبق منه سوى الذاكرة بعدما أذبلت الحضارة المعاصرة مرابعه وبساتينه، واعتدت على براءته حتى تغيرت رائحته. هذا الشعور المؤلم هو ما يستشفه القارئ عبر المنافذ التي لم تستطع كثافة النصوص أن تسدها، فلم تأتِ مسارب سردية فقط من خلالها تتبادل النصوص روائح الطفولة في بيئة بكر لم تمسسها يد التحول الاجتماعي والثقافي المعاصر، بل هي أيضًا المتنفس الوحيد الذي من خلاله يتجلى الحنين الرومانسي إلى أسطورة الطبيعة النقية الأولى. ولعل هذا الحنين والألم هو القاسم الوحيد المشترك بين الدرعان وبين زياد السالم في مجموعته (وجوه تمحوها العزلة).
 
ومجموعة السالم هذه تستعيد الحنين والألم نفسه الذي نراه عند الدرعان، لكن هذا الحنين يتحول هنا إلى يأس باكٍ، لا يفضي إلاَّ إلى الإحباط المرير. وقد تناول القاص والناقد عبدالحفيظ الشمري هذه المجموعة ليصفها ومؤلفها حين كتب في تقديمه من خلال مقابلة أجراها مع المؤلف:
 
" السالم في هذه المجموعة يبكي.. نعم يبكي في الخفاء؛ كما يليق برجل هدّه العناء اليومي، وأثقلته اللواعج، ومع هذه النوبات البكائية يكتب، وفي العتمة الجديدة... حين يتفرس قسمات الوجوه الغارقة في العزلة.. لم تكن تلك الوجوه سوى إفرازات مكابدة ابن الصحراء، وحيرته... بعد سقوط الصحراء فريسة لأهل الأسوار الأسمنتية.. والأسلاك الشائكة.. أترى زياد السالم يدفع بشخوصه نحو النهاية، نحو السكنى في غابات الأسمنت المتسامقة؟. "
 
لقد كان السالم، وفي تقريرية مباشرة، شديد التشاؤم والحزن؛ لا يرى فيما هو حاضر أو قادم ما يدعو إلى التفاؤل. ففي المقابلة الصحفية التي اقتطفنا منها مقدمتها، يقول السالم:
 
" هل هناك وجه آخر غير الحزن؟ ما لونه؟ ومن أي كوكب هبط؟... أمام كل هذه القوى الاعتباطية في الطبيعة، بل ضلوع القوى الظلامية المدمرة لكل ما هو إنساني وجميل في مسخ الآخر ذي الرؤية المختلفة.. تنعدم القيم الإنسانية إلى درجة الصفر، وتتحول علاقة التكافؤ الإنسانية إلى علاقة التشيؤ.. أحد أطرافها ينتهي إلى التلاشي التام.. ومن هنا يبدأ الكف الذهني، ومن ثَمَّ الانحدار إلى مرتبة اللامبالاة.. إنها عملية تبخيسية لإعطاب الروح المتوثبة " .
 
هذا النفَس المتشائم كأنه استنساخ لعناوين قصص (وجوه تمحوها العزلة)؛ إذ ليس غريبًا أن تأتي عناوين القصص في المجموعة انعكاسًا لهذا التشاؤم المفرط، فمنها (مرثية رجل الظل)، (سنوات العزلة)، (أعشاش القصب)، هذا إذا غفلنا عن عنوان المجموعة كلها: (وجوه تمحوها العزلة)  . 
 
أ - ذاكرة مثخنة بالدم:
 
من مجموعة (رائحة الطفولة) القصصية، (مؤسسة عبدالرحمن السديري الخيرية، 2000م).
 
ذلك اليوم - هو الجمعة بلا ريب - ساعة ما بعد المغيب تحديدًا.
 
ثَمَّة شيء ما، ربما يد إنسان تتحرش بك أن تخلد إلى نومك، لتصحو في الحلم على أثر ارتطامك بالمشهد البعيد.. تنتبه إلى الرضوض فإذا هي قد كبرت وغارت بعيدًا إلى الحد العصيِّ على الاندمال.
 
جراح كثيرة استطعت أن تتجاوزها بمرور الوقت، موت عاهل، إهانات، إخفاق، وحرمان، تحكي تفاصيلها الآن بحياد كأنّك تستدينها من ذمّة الزمان من أجل الوفاء لها فقط، بيد أنها لم تعد ضمن مقتنياتك. فقد تعلمت بالوراثة أن تصدّق كل الشائعات الّتي كان أهل قريتك يروّجونها مثل مبدأ أن الصعوبات التي تذل الإنسان ويعجز عن التصدّي لها تتكفل بمحوها الأيّام ويوم فرم جنـزير الدّرّاجة كاحلك آنذاك وأوقعتك مهرتك الصغيرة أرضًا لم تجد عكازًا تسند ضعفك يومها غير تلك الكلمات التي رماها جدّك القاعد في شمس الضحى يمضغ رطب أول النهار إذ حصبك بالنواة وقال من دون أن يحرّك فيه شلال الدّم على كعبك أيّة عاطفة:
 
- قم. تكبر وتنسى!!
 
بلّل الألق ملامحه لما رآك تنهض بخفّة وأضاف بطريقة احتفالية:
 
- ونخطب لك العروس
 
فلم تتمالك على أثر غاشية الخجل التي امتطى وجهك لونها إلا أن تستأنف قيادة دراجتك وتلوذ بالفرار تطاردك ضحكاته المتدفقة على هيئة وصلات رعد صغيرة ومجلجلة.
 
وفي الأيام التالية، ما كان يخطر في بالك أيها الولد الغرُّ الانصياع لتلك المواعظ البالغة في غرابتها، ما كان يخطر ذلك في بالك أبدًا وحين شاهدت (مريم) تتعثر في حاشية عباءتها، في ذلك اليوم الذي لن تنساه كمنعطف خطير في تاريخك الشخصي، فسّرت المشهد على أنه ليس سوى بنت صغيرة تتسلف عباءة أمها من قبيل التجريب، وهكذا عانقتها مكبًّا على أطرافك الأربعة وشرعت تعوي مرتجلاً في الحال مسرحية أنت تستحوذ فيها على دور الذئب الجائع إلى عنـزته الجميلة، وكنت بالفعل مصممًا على أن تمضغ عباءتها، فلم يدر في خلدك أنها سوف تختفي إلى الأبد إلا عندما انتهرتك أمك بقسوة، وكأنّها تتقمّص دور الرّاعي لولا تلك الجديّة التي تعرفها جيّدًا قائلة:
 
- إن البنت كبرت (!!)
 
وسرعان ما فهمت أنها تتعمد أن تضع على اسمها المغروس في ذاكرتك كعشبة برية حجرًا أو غلالة سوداء.
 
ذلك اليوم - هو الجمعة بلا ريب- ساعة المغيب كان الفتى يختلس وقته الضيّق من أوقاتهم ويتسلل إلى بيتها.. ويتدلى من ذراعيه تحت الشرفة شاخصًا باتّجاه المرأة الصغيرة، تتجوّل فوق السّطح كفراشة معتقلة.
 
يقول لها بلهجة تحمل كل تحدي الأطفال:
 
- هيا، انـزلي، ثم يسحب ورقة اللّعب من جيبه ويفردها على نحو بهلواني، إنّهم في الصّلاة.
 
وبدورها سددت إليه سهمًا مراشًا بالرّعب:
 
- عبّود! هل يمكنني أن ألد كالنّساء بسبب الدّم؟
 
- أي دم، هل جُرحت أيضًا؟
 
لكنّها أجفلت حينما أفاقت على فظاعة السّلوك الذي قامت به، وولجت إلى الدّاخل تاركةً الولد يلعق الأسئلة تلو الأسئلة.
 
قرب العتبة يحدث أن يعثر الطّفل على وردة حمراء مرميّة في تلك المساحة من الممرّ غير النافذ بين البابين، خشبة مسرحهما اليومي، من الرّائحة تعرّف هذا الولد لأوّل مرّة على الأسرار!!
 
من الرائحة وحدها.
 
يتذكر أنهم خلعوا عليها في تلك الأيّام البعيدة لقب (البنت المخبية)، بعض النساء كنّ يتحاشين المرور على اسمها الحقيقي بدافع الحسد.
 
تصل إليه أسرارهن التي تمجد حلاوة عينيها.. ضحكتها الدافئة.. شعرها الهارب سبطًا ناعمًا للدرجة التي تجعل الماشطة تفرش لها بساطًا أثناء التسريح.
 
يتذكر حتى أكاذيبها العذبة وهو يسترق السمع لكي يتخيل هذه الأسطورة، ويتمنى أن يراها.
 
هي البنت الصغيرة التي كانت ذات يوم في مثل سنّك، ويدوم فيك ذلك الصوت:
 
- قم تكبر وتنسى
 
هل أصبحت كبيرًا حقًا؟ تصحو، تتجرّع كأس الماء وتحاول أثناء ذهابك إلى العمل أن تجمع نسيانك من فضلات نسيانها.
 
ب - مزامير الملائكة:
 
(زياد عبدالكريم السالم)
 
إلى شادن... أشرقت وأنا هناك
 
الأطفال الطائشون
 
لو يفرون بي... أختبئ بينهم في هذا الليل الموحش، أو أتخفى في الأغراض المتروكة في الفناء الميت، قبل أن ترشقني غشاوة النهار.
 
نهرب نحو أرض غير موبوءة بالموت!
 
إذًا لانفرطت أغنيات الفرح كضوء أزرق يرتعش في قاع بئر معتمة شرشت تجاويفها الداخلية شجيرات قطنية أصابها العمى بفعل الظل والعطش.
 
لو يفرون بي... أهبهم نفسي المأهولة بالعسس، والناس البعيدين، والفتيات الجميلات، والحمام البري المنذور أبدًا للرحيل، وبياض البنايات الموسومة بالخرس، والمدن المصمتة بالفراغ.
 
أهبهم كل هذا بعينين واجفتين، لعل الفرح لا ينطفئ.
 
أما هو...
 
فقد رحل كحلم أبيض أيقظته الشمس... وإلى قتامة المشهد اقتادني رجال بليدون!
 
خفت من ثلاجة الموتى المعبأة بالجثث الطازجة
 
أصابتني بالعفن رائحة الفورمالين!
 
وعند جذوع الأثل نكست رأسي بحزن... مثل حالي قبل ثلاثة أعوام في دمشق... أركض في شوارعها تائهًا تحت قيامة المطر... أهيم في وجوه الناس المشغولين بفرحة العيد. تلك العجوز الشامية بادهتني بسؤال مربك:
 
يا حرام، شايفتك وحدك بصبحية ها العيد. الغريب ما لو عيد يا ابني.
 
يحضنني ليل مسقوف بأثواب دبقة، ظلالها بقدر بهاتة الرماد، منسوجة من فداحة الأيام الحالكة وأقمشة إخوة يوسف المعاقب على بخته، كما لو أن طيرًا يهتك طقوس الموت مقترفًا خطيئة الغناء فوق شواهد القبور... يغني في المقابر بصحبة ملائكة مجللين بالبياض.
 
يغني كيما يخيف الموت!
 
كلما اتكأت إلى جذع النخلة المختبئة في زحمة الخرائب المهجورة، يسّاقط علي التمر، فأغيب عن نفسي ويحضر الناس... وبخفة نعاس المصلين، يتسلل إلي رجال ليليون، وحاديهم كاهن ينكت أضراس الرمل بعصاه، متفرسًا بعيني قط في المكان المشبوه بأنثى تطرطش الماء على نار شبت للتو، والأسمال الرثة ملقاة بجوار ربابة كأنها كفن طفل، وأعشاش الوطاويط السرية، والجراد الملتصق بالجدران صباحًا، والمفاتيح الصدئة التي لا تفتح شيئًا، بقايا مطر البارحة وقد غمر جدران الطين ليخلف رائحة حية ومنعشة كالغيبوبة، تذكر ببهجة الصبا، كذلك البرد المتناثر في جحور الخرابة وجيوبها مشكلاً أكوابًا وكاسات بلورية، لها وقع السحر، تنساب مثل أغاني فيروز... والسلوقيات المهملة، والأولاد الساقطين في المدارس، وأطياف الأصدقاء المفقودين، والغد الذي لا يجيء...
 
ليل ومزامير الشوارع
 
يحدث أن أستيقظ على همهمة نساء الغسق، يأتين متدثرات بعباءات قُدّت من أفق أسود... يأتين مشيًا إلى بيتنا، ليشربن حليب الفجر ممزوجًا بالزنجبيل الدافئ... أفقت قبل قليل... عيناي جمرتان منطفئتان في السقف الراشح بالماء والعناكب... وتلمست كالأعمى جسد الرجل... يا للعزلة! هو نفسه كما عرفته أول مرة، طيرًا طالعًا من عتمة المناجم... رأيته كثيرًا في الأسواق والدكاكين القديمة، لا يبتاع شيئًا لكنه يتسلى بالفرجة على الزبائن... يوزع عليهم بعض المزامير... ويبدد هذا الليل.
 
قلت له:
 
وينك ما تنشاف؟
 
أجهز نفسي.
 
للزواج؟
 
لا.. أجهزها لبكرة!
 
وفيما بعد سوف تناكفه أمه لتشحذ فيه رغبة خفتت منذ زمن... السرير صار أزرق منّك. لكنه يمعن في استنكافه حتى عن التسكع في شوارع المدينة، إحدى عاداته التي كف عن معظمها مخافة القتل... مكتفيًا بالعود البغدادي إلى جوار سريره. السرير الذي ما انفك يبعث صريرًا يشاكس تقاسيم الأوتار النازفة كطفلة منسجمة في ميعة الأمس... غرفته مهملة على نحو فاجع، تآكل جيرها الباهت... فيها بقايا خبز أخضر، ومكعبات ثلج وأعقاب سجائر، وجركن فارغ، وحكايا نسجتها خالته الممسوسة بالخوف: خيطًا خيطًا وحلمًا حلمًا عن الأهل الذين ما عادوا وعن الربيع الهارب، ومجانين المدينة، والحمارة العرجاء التي ترفع ذيلها... والشتاء المخيف، والنوافذ المغبشة في دوائر الضباب... لو كانت الجدران تنطق!
 
غواية
 
ثمة فتاة بديعة، سحرها باذخ، تشبه عصفورة النهر، يغفو على شعرها سرب فراش... تركض بحبور النائم وقد استيقظ على حلم لذيذ... تركض بين دوالي العنب، راسمة كائنات شفافة، متثائبة، لا تبدأ ولا تنتهي، أبدًا ما بكت، ولم تك معلقة في هواء!
 
إيقاع العتمة
 
ثمة حارس وحشي، يتربص ذئاب الجبل، بندقيته موكوءة بجواره. عينه قربة دم!
 
يرسمه الرمليون هكذا!
 
ج - فتلكم صفات الجوف:
 
(بمناسبة أسبوع الجوف الخامس)
 
عيد بن نعيم السهو (رئيس النادي الأدبي بمنطقة الجوف سابقًا)
 
ألا أيها الساري إلى أرض موطني     إلى  أرض أجدادي لأرض الأكارم
إذا جئت أرض الجوف أبلغ تحيتي     إلـى كـل من تلقى بذات المكارم
سـتلقى  بها قومًا إذا صرت بينهم     تلقـوك  بالترحـاب من كل عازم
تلقوا  صفات الجود والمجد والسخا     تراثًا مـن الأجـداد عنـد اللوازم
هم المكرمون الضيف إن حل فيهمُ     هـم المرفدون الناس جل المطاعم
هـم المانعون الملتجي في رحابهم     هـم الآخـذون الحق من كل ظالم
هـم المدركون الحمد من كل وا فد     هـم النـائلون الشكر من كل قادم
فتلكم  صفات الجوف والمال وا فر     وكـانوا لهـا أهلاً بشـح الدراهم
ولا  غـرو فيمـا أدعيـه وإنهـا     علوم تراهـا سـطرت بالمعـاجم
فلـم يثنهم عن جودهم شغل شاغل     ولا صـدهم عنها صليل الصوارم
ولـم يثنهـم عنهـا عـدو مهاجم     وكـم  كبـدوا الأعداء شر الهزائم
وكانوا  على  ذا الحال حتى أعانهم     مـن اللـه مبعـوث كبير العزائم
فقـد  جـاء في غوث من الله حاكم     ليقضـي  بشـرع الله عبر المحاكم
ألا  إنـه  عبدالعزيـز وقـد أتـى     لـيرعى شؤون الناس في علم عالم
فأرسى صروح الحكم بالعدل والتقى     وزالت به الفوضى وشكوى المظالم
ومـن  بعـده الغـر الميامين أسرة     تـوالت  علـى منهاجـه بالتراحم
فعـم  الـبلاد الخير والأمن والرخا     ومـن قبـل كـانت بين حقد وناقم
وإنـي  لفـي شوق لأهلي وديرتي     لأرض  بنـي قـومي كبار العمائم
سـقى  اللـه منها كل وادٍ وروضةٍ     وأحيـا  يبـاس الأرض منها بغائم
ألـم  تك قد خُصت من الناس بالثنا     كمـا لو مضت بالجود من عهد آدم
ومـن بعدها يبدو لك الضلع زعبل     ومـن غربـه الساعي هما كالتوائم
إذا  شـئت فانظر ديرة المجد منهما     تـرَ  الحسـن  فيها بالنخيل القوائم
وقــد حفهـا غربًـا تلال أنيقـة     ومـن  شـرقها  يعلو نفود القصائم
وقـد  أُسميت (وادي النفاخ) بلادنا     لما  كـان فيهـا مـن كريم وراحم
ففيهـا  تقـوم اليـوم للناس نهضة     تفـوق  اتسـاعًا كـل حـلم لحالم
فنـالت بمـا حـازت علوًا ورفعة     فطـارت سـموًا فوق قطب النعائم
ومـن  ثَـمَّ حيوا دومة الجوف إنها     لهـا  في ذرى التاريخ مجد الملاحم
وما  زال يـروي قصة الدهر مارد     وتاريخهـا  مـا بيـن ماضٍ وقائم
ولم ننس يومًا ما روى الناس حولها     وأن لهـا شـأنًا كـإحدى العواصم
وفـي  هـذه  الأبيات أدلي مشاركًا     بأسـبوعنا في الجوف رغم التزاحم
وليسـت سـوى جـهدٍ قليـلٍ أبثه     وإن  كنت قد قصرت فليعفُ لائمي
د - شموع ودموع:
 
الدكتور الشاعر أحمد بن عبدالله السالم
 
 
أتيـت  يحـملني شـوقي ويغريني     نحـو الـذين إلـى عشقي أعادوني
مـا  جـئت  أفخـر في شعر أردده     بيــوتكم منــه ملأى بـالدواوين
نـذرت  للأهـل والأوطـان قافيتي     فهـل أضِـنُّ بهـا والدار تدعوني؟
دارٌ ولا كــل دار فـي مفاخرهـا     أهـلٌ ولا كـل أهـل في الموازين
أنـا أهيـم بهـا صبحًـا وأمسـيةً     حتى استقرت على رأسي وفي عيني
مـا جـئت ذاكـرة التـاريخ أسألها     إلا  وجــدت شـذاها كالريـاحين
يـا  جـوف أنـت لنا قلب نلوذ به     حتى وإن كـنت من رمل ومن طين
أحب أهلَـك مـن بـدوٍ وحـاضرة     وحـبهم  بـات يسري في شراييني
كـل  الديـار علـى التحسين قائمة     وداركـم  قد  زهت من غير تحسين
إذًا لأبقيـت قلبًــا فـي مـرابعكم     لـو أنّ لـي في حنايا الصدر قلبينِ
أو كنت أحيـا بنصـف منه أو ثلث     شـققت  قلبي - لو ينشقُّ - نصفين
خطاي تـترى إليهـا لـم أخفْ أبدًا     رمضـاء  تمـوز أو بـرد الكوانين
لـو  لـجّ مـاردُ يدعـوني ويندبني     كأنمـا  زعبـلُ التـاريخ يدعـوني
أو  الرجــاجيل حـيّتني لجاوبهـا     كافٌ  وإثـرةُ مـن شـوق تحـيِّيني
لا,  لـم يكـن ماؤها الرقراق يأسرُنا     ومـا  تسـامق مـن نخـل وزيتون
ولـم  يكـن ظلهـا سـرَّ الولوع بها     ولا  المحـاصيل  من خوخ ومن تين
ومـا  عَشِـقْنا بهـا رملاً ولا حجرًا     فمـا  عـدا سـاكنيها ليس يعنينـي
لأهلهـا فـي فـؤادي مـنزلٌ فهـمُ     في  سـلم المجـد جـيران السماكين
علـى كـرام اللحى مني السلام زُقىً     فهــم  سـلائل  جـود بـالبراهينِ
يا  جـادكِ الغيث يا أرضَ الكرام ويا     مهـد  الحضـارة يا عشق السلاطين
أتـاك  خـالد سـيف اللـه متشـحًا     بالسـيف فـاجتث أمجـاد الأُخـيّين
وبعـده جـاءك الفـاروق يصحبـه     بعـض  الصحابة يولي الحزم باللّين
حـتى بنـى مسـجدًا ظلّـت منارته     تروي  تقـادم عهـد الـدار بـالدين
وهكــذا سـارت الأيـام مسـرعة     حـتى اسـتكّنت إلى حامي الشريفين
وعينـه  عندنـا في الجوف مبصرة     فهـدٌ  ومـا ثُقـل فهـدٍ بـالموازين
قـد  جـاء  ينسـل من قوم غطارفة     طــابت أرُومتهـم شـم العـرانين
فـإن تحـدثت عـن أخلاقـه أبـدًا     فـي مثـل أخلاق فهدٍ ما رأت عيني
جـم التـواضع موفور الحماس على     هدي  الربـوع بجـهد غـير ممنون
أعمـامكم سـيزيدون العطـاء لكـم     والبـذل  مـن شـيمة الغُرِّ الميامين
قـالوا: ديـارك أضحى القتل ديدنها     فقلـت: يـا دار عن سؤلي أجيبيني
مـاذا دهـاك؟ وقـد فاضت مدامعها     قالت  : أتهـزأ منّـي أم تواسـيني؟
فقلـت: لا والـذي تُحنى الرقاب له     إن  الـذي أمسِ قـد أبكـاكِ يبكيني
وكلمـا  أمِنـتْ داري فخـرت بهـا     تُعِلُّنــي  الـدارُ أحيانًـا وتَـرقيني
وبينمـا أنـا والـدار الـرؤوم على     خُـلفٍ, وإذ بقعـة سـوداء تدعوني
تقـول: لا تطلبـوا سـرًّا فيعجزكم     أنـا  الحماقـة أعيـي مـن يداويني
من  كنت والجهل فيه عاش في رهق     إبليسُ حـين التقـاضي لا يبـاريني
فقلـت  : لا طال في أرضي بقاؤكما     هلاَّ  ترحلتمــا يـا شـرَّ ضيفيـن
فـالقتل أعظـم جـرم من أتاه مشى     فـي  ركب لينين يقضي الدَّين بالدَّين
عـذرًا بنـي الدار إني جئت محتفلاً     والشـعر في فوعةِ الأحداث يعصيني
عذرًا بني الدار ليس الهجر من شيمي     فالشـغل يبعـدني عنكـم ويـدنيني
أتيـت  أنشـد فـي حـفل تسيل له     كل  النفوس وصوت الجوف يشجيني
معنــاه ليس بترحــيب نعلِّقــه     ولا  المصـابيح تزهـو في الميادين
بــل التلاحـم فيمـا بيـن قـادتكم     وبينكـم  فهـو  أقوى في عرى الدين
عذرًا بني الدار طاب الحفل وانتفضت     أركانـه ودمـوع الحـزن تكسـوني
مـا  كـنت أحسـبني أبكـي بقافيتي     لكــن  غائلــة  الأيـام تحـدوني
عيناي  عيـنٌ بدمع الحزن قد غرقت     والحـفل  فـي عيني الأخرى يغنيني
 
شارك المقالة:
139 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook