يتعاظم ارتباط جهود النمو الشامل للأمم باستراتيجيات التطوير الإداري للمؤسسات؛ ذلك أن المقصود هو التطوير الهادف إلى خلق الإدارة التفاعلية ليس اختيارًا، بل ضرورة تتطلبها المتغيرات الوطنية والعالمية، ويقتضيها التطور الهائل في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ففي عصرنا الحديث لم يعد للإدارة التقنية كأسلوب تقليدي في بعض المؤسسات، الانجذاب الروتيني لها؛ لأنه يقتصر اهتمامها على القوانين واللوائح أكثر من القائمين على هذه المهام.
إن مكمن الخطورة على المؤسسات أنه لا يمكنها أن ترتقي فوق مستوى قياداتها، خاصة مع اتباع الطرق التقليدية في الإدارة، التي يتم على أساسها اختيار القيادات الإدارية، فمن الثابت أن العاملين في أي مجتمع يتطلعون إلى تقدير كفاءاتهم، وإلى معاملة تشعرهم بذاتهم، وتحافظ على استقلاليتهم في إطار من الثقة والاحترام المتبادل.
ولا شك في أنَّ الشكل الذي يتم به التعامل والتفاعل بين إدارة المؤسسة والمسؤولين عن البرامج التنفيذية؛ هو الذي يفرق بين الإدارة التقنية، والإدارة التفاعلية التي أصبحت حتمية لدخول المؤسسات سباق الجدارة في هذا العصر، فبينما ينمي أسلوب رائد الأعمال التقني مشاعر الاستياء لدى العاملين التي تنعكس سلبًا على جودة وإنتاجية المؤسسة، يتجه اهتمام رائد الأعمال التفاعلي إلى مواءمة إنسانيته، مع اهتمامه بالقوانين واللوائح المنظمة لعمل المؤسسة؛ حيث يركز اهتمامه على علاقات العمل والعلاقات الإنسانية؛ بتفهم مشاكل العاملين وتقدير احتياجاتهم للمحافظة على المقدرات الإنتاجية ووسائل العمل، مع تركيزه على تحقيق أهداف المؤسسة ورسالتها ورفع إنتاجيتها.
ويُعد التحول من الإدارة التقنية إلى الإدارة التفاعلية، عملية استراتيجية حيوية؛ لأنها ترتبط بالتنمية البشرية؛ أحد أهم معايير قياس حضارة وتقدم الأمم، بعدما أصبح لمراكز التنمية البشرية دور استراتيجي في نمو المجتمعات؛ مثل تدريب رواد الأعمال والقادة الإداريين، وإكسابهم المهارات الضرورية ليكونوا تفاعليين في مؤسساتهم؛ كالقدرة على المواجهة، ومدى التأثير في الآخرين، وحسن الاستماع، والإيمان بأهمية الخبرات السابقة المكتسبة، والاستفادة منها، والثقة بالنفس، واحترام الآخرين، وفهم أوجه القوة ونقاط الضعف في القائمين على المؤسسة، علاوة على الأمانة، والتكامل، والنضج؛ وبذلك يلقى رائد الأعمال التفاعلي مزيدًا من الرضا و الاستحسان من مرؤوسيه.
لدى بعض رواد الأعمال نظرة قاصرة، بأن الإنتاجية هي محور العمل وغايته دون الاهتمام بقيم ومعتقدات العاملين ولا بتأثيرها على احتياجاتهم المادية والروحية وبطبيعة سلوكهم! ويبررون ذلك بأن الاهتمام بتعظيم الإنتاجية يشبع حاجة العاملين الوظيفية التي تعد من أهم سمات قيادات المستقبل، لكنَّ منتقدي هذه النظرة -الموصوفة بالقاصرة- يرون أن رائد الأعمال الناجح هو منْ لا ينظر لمرؤوسيه نظرته للثروات المادية وأدوات الإنتاج؛ كونها تؤثر سلبًا على العاملين، وعلى تقديرهم لأنفسهم، ومدى ولائهم للعمل المؤسسي.
من الطبيعي أن توجد مشاكل في بيئة العمل، فكلما كان هناك عمل وإنجاز، برزت المشاكل، لكنَّ المهم هو كيفية التعامل معها، فغالبًا ما يتعامل بعض رواد الأعمال مع المشاكل بأسلوب التسكين المؤقت بنوع من السطحية والبساطة، التي تبلغ حد السذاجة بتجاهل لب المشكلة من أساسها، أو تهوينها، أو ترحيلها من إدارة لأخرى؛ ما قد يؤدي إلى تضخمها وتفاقمها، وزيادة آثارها وخسائرها، وفي المقابل التقليل من فرص علاجها واحتوائها.
ويمكن إيجاز أسباب ذلك التعامل السلبي في ضعف الانتماء للمؤسسة، وغياب الأمانة والإخلاص، والخوف من الفشل، والتردد في تحمل عبء المسؤولية، وضعف الشخصية، والانفراد بالقرار، والإحساس بالضعف، أو ضيق الأفق في التعامل مع المشكلة؛ نتيجة النظرة الفردية، وقلة الخبرة، وقلة المعلومات، وغياب الحقيقة، بالإضافة إلى الحاجة الملحة لدى كثيرين لإثبات أنفسهم بتسجيل نجاحات شخصية سريعة على حساب حقيقة المشكلة ومصلحة العمل.
ولعلاج هذه الظاهرة، يجب اتخاذ سلسلة إجراءات عملية؛ منها اتباع أسلوب فريق العمل، والجماعية، ودقة المتابعة والرصد والتحليل، وتوفير خبرة مهنية كافية، علاوة على الثقافة الإدارية والدراية النفسية والأخلاقية في رواد الأعمال، والتعامل بالأسلوب العلمي الصحيح مع المشاكل، بداية من جمع المعلومات وتحليلها وتحديد أسباب ووسائل العلاج واختيار أنسبها ومتابعته، مع مراعاة توجيه ميول المديرين نحو الحسم في التعامل مع المشاكل بدون تأجيل؛ لأن تكلفة عدم حل المشكلة غالبًا ما يكون أكبر بكثير من تكلفة مواجهتها وحلها.
والحقيقة أنه يبقى للبعد الأخلاقي والنفسي وقوة البناء التربوي، التأثير الحاكم على شخصية رائد الأعمال في التعامل مع المشكلات وإدارة المؤسسة؛ ما يتطلب دقة وأمانة الاختيار من البداية.
لا شك في أنَّ كل تطوير يحتاج إلى تغيير، فالتغيير قبل أن يكون مبدأً إداريًا ملازمًا للتطوير فهو سنة كونية متلازمة في كافة مجالات الحياة، فلابد للتغيير من تضحيات، ولكن مع التضحيات تأتي النجاحات.
وفي التغيير تُراعى مصلحة المؤسسة وتُقدَّم على مصلحة الإدارة والفرد؛ إذ تؤكد الشواهد أن قدماء الموظفين هم الأشد مقاومة للتغيير؛ لحرصهم على مصالحهم الخاصة؛ لذا كانت استراتيجية التغيير بهدف التطوير، من أهم استراتيجيات التحول نحو الإدارة الحديثة، إضافة إلى استراتيجية الشجاعة ومواجهة الحقائق، فرائد الأعمال أو المدير التغييري الأقرب للنجاح؛ هو من لا يهرب، ولا يلتف حول الحقائق المؤلمة، ولا يسعى لإخفائها، أو تأجيل التعامل المباشر معها، ولا تخدعه الأوهام، بل يسعى بجرأة لمعرفة الحقائق، والوقوف بدقة على جوهر المشاكل، والتعامل العلمي معها، واتخاذ القرار الشجاع في الوقت المناسب لحلها.
ولعل من بين أبرز أساليب التحول الاستراتيجي، بناء الثقة المتبادلة بين الموظفين والإدارة؛ بمدحهم، والثناء عليهم، وحسن الاستماع لهم، ومشاركتهم خطوات التغيير والإصلاح، وصناعة القرارات، والتقرب منهم، والاهتمام بتأهيلهم المهني وتدريبهم الوظيفي، وتحديد سياسات متنوعة للحوافز والمكافآت وتنفيذها في آجالها، وتدعيم مبدأ الرقابة الذاتية، وفتح قنوات اتصال مباشرة بين الموظفين والإدارة العليا.
تبقى استراتيجية التحفيز والابتكار مجالًا واسعًا؛ لإبراز المرونة في التفكير لدى العاملين، وتشجيعهم على ذلك ماديًا ومعنويًا، بعد توفير مقومات الابتكار وكذلك الدوافع والمحفزات المنشطة له؛ لتقديم الأفكار الجادة لتطوير العمل، وهي فرصة حقيقية للمسؤولين في الإدارة العليا؛ للحصول على أقصى استفادة لخدمة مهمة التطوير، انطلاقًا من أفكار مستوحاة من الواقع العملي والتطبيق الميداني، من شأنها أيضًا تزويد الإدارة بما يمكن أن تتضمن من عناصر تقييم الأداء الفردي للعاملين بالمؤسسة سنويًا.