كانوا صحابة رسول الله -رضي الله عنهم- يتسابقون في نيل رضا الله تعالى، ورضا الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، فكانوا لا يدّخرون جهداً ليعلو شأن دينهم وقرآنهم، ويتنافسون لإدراك معالي الأمور ولو ترتّب على هذا أذى شخصيّ أو بدنيّ عليهم، ولأنّهم الأوائل في استقبال الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- ودعوته، فقد نال بعضهم بركة السْبق في الأعمال الصّالحة، فمنهم أوّل من أسلم، ومنهم أوّل من جهر بالقرآن الكريم، ومنهم أوّل من سلّ سيفاً في الإسلام وفي سبيل الدّعوة، ومنهم أوّل من استشهد في الإسلام، وغيرها من الألقاب العظيمة التي علا شأن صاحبها في الدنيا ورضي عنه الله تعالى، والرّسول صلّى الله عليه وسلّم.
لقد نال فضل الجهر بالقرآن الكريم صحابي جليل وقد استعدّ عندما كان المسلمون قلّة مستضعفون، وهو الصحابيّ عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هُذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار، ويُكنّى بأبي عبد الرحمن، وهو من السّابقين إلى الإسلام، ومن فقهاء الأمّة، وهاجر الهجرتين، وروى قراءته أبو عبد الحمن السلميّ، وعبيد بن نضيلة وغيرهما، وكان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- رجلاً لطيفاً، وذكيّاً، وفطِناً.
لقد كان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- من أقرب النّاس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد كان يناوله حاجته، ويوقظه إذا نام، ويسّتره إذا اغتسل، ويدني إليه حاجته، ويُعينه في شأنه، فقال عبد الرحمن بن زيد: (أتينا حذيفةَ فقلنا حدِّثْنا بأقربِ الناسِ من رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّمَ- هدياً ودَلّاً نلقاهُ فنأخذُ عنه ونسمعُ منه، قال: كان أقربَ الناسِ هدياً ودَلّاً وسمتاً برسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّمَ- ابنُ مسعودٍ، لقد علم المحفوظونَ من أصحابِ محمدٍ -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّمَ- أنَّ ابنَ أمِّ عبدٍ من أقربِهم إلى اللهِ زُلْفَى).
كان الصّحابة -رضي الله عنهم- مستضعفين في بداية الدّعوة الإسلاميّة، وكانوا يخشون بطش قريش وعذابهم لِمن يتبع محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقد كانوا يوماً جالسين بقرب الكعبة، فذكروا فيما بينهم أنّ قريشاً ما سمعت بالقرآن يُجهر به قطّ، وأنّه ما مِن أحدٍ تحدّاهم بذلك، فتاقت نفس عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن يكون هو أوّل من يجهر بالقرآن الكريم متحدّياً إيّاهم بذلك، ومُعلناً أنّه على دين محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فحاول الصّحابة -رضي الله عنهم- أن يثنوه عن ذلك؛ خشيةً عليه من بطشهم، لكنّه أصرّ على الجهر بالقرآن الكريم، وفي اليو التالي في وقت الضّحى؛ خرج ابن مسعود -رضي الله عنه- وبدأ بالتلّاوة جهراً وعلانيّة قول الله تعالى: (الرَّحْمَنُ*عَلَّمَ الْقُرْآنَ)، فبدأ بسورة الرّحمن ثمّ أكمل منها ما تيسّر، فبدأ رجال قريش يتسائلون (ماذا يقرأ ابن مسعود؟)، فيجيب أحدهم: (إنّه يقرأ بعض ما نزل على محمّد من القرآن)، فبدأوا يضربونه في وجهه وقد أثّر ذلك فيه، ثمّ انصرفوا، فجاء عبد الله بن مسعود إلى بعض أصحابه رضي الله عنهم، فقالوا له: (والله لقد خشينا عليك من هذا)، فقال: (لا عليكم والله إنّي لا أخشاهم أبداً، وإنّ في نفسي رغبةً إذا جاء الغد أن أصنع ما صنعت اليوم)، فنهوه عن ذلك، وقالوا: (قد أسمَعْتهم ما يكرهون).
كان مقام عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- رفيعاً عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد ذكره وامتدحه الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- في أكثر من مرّة، وفيما يأتي بعض هذه المواقف:
أحبَّ الصّحابة الكرام -رضي الله عنهم- عبد الله بن مسعود لرفيع خُلقه، وعَظَمة أفعاله وذكائه، وورد عنهم عدّة أقوال عنه، منها ما يأتي:
توفّي عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- في سنة 32هـ بالمدينة المنوّرة، ودُفن في البقيع، وصلّى عليه عثمان بن عفّان رضي الله عنه، وكان عمره يوم توفّي بضعاً وستين سنة.
موسوعة موضوع