نعم أغير

الكاتب: المدير -
نعم أغير
"نَعَمْ أُغيّرُ

 

من القواعد المقررة شرعًا أن الضَرَرَ يُزال بقدر الاستطاعة، فإن أُزيلَ بالكلية ففضلٌ من الله ومنّة وإلا فبقدر الاستطاعة وبالممكن والمتاح.

 

ومعلومٌ أن إنكار المنكر في الشرع ليس على مرتبة واحدة ولا بكيفية واحدة، إنما بالفعل أو القول أو القلبِ وهذا - أي: إنكار القلبِ - أضعف الإيمان كما في حديثِ أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عنه صلى الله عليه وسلم:

«من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان».

 

وإنّ من الإشكالات المفاهيمية التي يشوِّشُ بها البعض -لاسيما على من تلبَّس الإنكار القوليّ- قولهم:

«هل كلامكم سيغير من المنكر شيئًا؟!».

أو قولهم: « الكلام لا يغير من الواقع شيئًا ».

أو من قبيل قولهم: « لن تُنصَر الشريعة بالأقوال والتنديدات والخُطَب الرنانة »... إلخ من هذه السيمفونيات المكرورة.

 

ومن المنطقيّ أن يُرَدّ عليهم بسؤال آخر من جنس سؤالهم:

إذا كانت الشريعة قد قرَّرَت مرتبة أدنى من مرتبة الإنكار القوليّ وهي مرتبة الإنكار القلبيّ؛ فهل سيغيرُ الإنكارُ القلبي من المنكر شيئًا؟!

فإن كان الجواب بـ: نعم، فهو إقرار بالأدنى على الأعلى، فالإنكار القولى أحرى في التغيير من الإنكار القلبي، وإن كان جوابهم بـ: لا، فهذا تشكيك في منهجية النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع المنكر، لأنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وإنما هي شرعة ومنهاج يقررها صلى الله عليه وسلم لحياة المسلم.

 

إن المتأملَ في مراتب الإنكار الثلاث ليَجد أن الشريعة راعَت -برحمتها- أحوال المسلمين المتباينة وراعت كذلك جانب الإيمان فيهم صلابةً وضعفًا، فتصوّر معي لو أن الشريعة لم تُتِح للمسلم الضعيفِ شحيحِ الإمكاناتِ إلا مرتبة الإنكار بالفعل وإلا كان دونها مفرّطًا في أمانة الله وخائنًا لله ورسوله، ولَلَحِقَ -على إثر ذلك- بكثير من المسلمين حرَجٌ عظيم، وعلى الجانب الآخر لو أن الشريعة لم تسمَح للمسلم القوي الغيور على محارم الله حين يرى المنكر إلا أن يكتفيَ بإنكاره بقلبه وإن زاد على ذلك -لفرط غيرته أو حميته أو الاستطاعة الممكنة له- فقد تعدّى وجاوز أمر الشرع، ولَحِقَ به الحرَجٌ.

 

إن المسلمَ حين تنزلُ بالمسلمين المنكرات الكبرى وكان من أهل البصيرة فإنه يسَعُهُ الترخّص بالسكوت والاكتفاء بالإنكار القلبي إن خشيَ على نفسه، لاسيما إن كفاهُ غيره بتبيين الحق وبالإنكار قولًا أو فعلًا، وهو - إن شاء الله - معذور شرعًا. وثمرة هذا الإنكار الصامت وضعُ سياجٍ من أن يتشرّبَ القلبُ هذا المنكر، فإن المنكر ذا طبيعة متعدية؛ إن لم تُغيّره - ولو بقلبك - غيّرَكَ!

 

ولاحِظ معي أن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآنف سمّى الإنكار بالقلب تغييرًا رغم كونه مقتصرًا ذات الفرد!

 

أما الذي جرى الإنكارُ على قلبه ولسانه فإنه يُعلِنُ بلسان حاله ومقاله براءتَه من هذا المنكر، يُحدِّثُ بذلك نفسَه التي بين جنبيه مُحذرًا قبل أن يصلَ صوتُه للآخرين تحذيرًا وتنبيهًا، كالخطيب يرفعُ عقيرته منبهًا في موضع التحذير والتنبيه، وهذا يجعل النفسَ - قَبل أن يجعلَ الآخرين - ترهَبُ مقاربة هذا المنكر فضلًا عن اقترافه، مثيل ما في تحذيره سبحانه من مقاربة المنكر بَلْهَ الوقوع فيه في قوله: ? وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ.. ? [الأنعام: 151].

 

إننا حين نشدّدُ على أهمية الإنكار القوليِّ وأثره على النفس، فإننا في هذا السياق لابد أن نشير إلى أهمية الكلمة -أيًّا كانت- وأثرها على الآخرين، فكيف والكلمةُ في هذا المقام موجّهة!

 

إنّ الصادعَ بالحق قد لا يملك من الخيارات إلا التبيين والتحذير والتدليل على فداحة المنكر وخطورتهِ وأثره على الفرد والمجتمع والأمة، وإن صدَقَ صاحبُه في بيانه وقالتِه فقد يلتقط هذه المقالة منه من يملك خياراتٍ أوسع من خيارات الناصح والمنكِر، وتقع منه موقع التأثّر ثم التأثير فالتغيير، فيتحول الإنكار -ربما- من القول إلى الفعل بفضل الكلام!

 

إن المسلم مسئول أمام الله عن أثره وبصمته في إحقاق الحق وإبطال الباطل وإنكار المنكر ودفعه قدر استطاعته، ولن يسأله الله عز وجل عن جهد غيره أو تخاذله أو عما هو خارجٌ عن استطاعته من زوال المنكر بالكلية، وإن المسلم حين يصدق مع الله - عزَّ وجلَّ - وينصح له ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإن الله سبحانه يؤيده ويفتح له ويبارك له في الأثر بما لا يخطر له ببال.. ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ? [العنكبوت: 69].

 

فالواجب على المسلم المتبصر الواثق بالله أن لا ييئس من مدافعة الباطل ولا يتخلّف عن إنكار المنكر إن عجز عن إزالته بالكلية، فإنَّ سنة الله عز وجل ماضية في مدافعة أهل الحق والهدى لأهل الباطل والضلال حتى تقوم الساعة، ليمحّص الله بذلك الخُلّصَ من عباده عن الأدعياء وأهل النفاق والزيغ.

 

والله غالب على أمره.

 

وتجلُّدي للشامتين أُريهمُ * * * أنّي لِرَيبِ الدهر لا أتضعضعُ


"
شارك المقالة:
26 مشاهدة
هل أعجبك المقال
0
0

مواضيع ذات محتوي مطابق

التصنيفات تصفح المواضيع دليل شركات العالم
youtubbe twitter linkden facebook